«إن هذا الكتاب يعتبر من أوسع ما كتب في التفسير، حيث بلغت مجلداته مائة وعشرين مجلدا، ولم يزد عليهفي عظم التأليف إلا عبد السلام القزويني شيخ المعتزلة ببغداد المتوفى سنة 483هـ، فإنه ألف تفسيرا في ثلاثمائة مجلد، منها سبعة مجلدات في الفاتحة، وقد ألف الأدفوي هذا الكتاب في اثنتي عشرة سنة، ويبدو أنه فقد، ولا يوجد منه الآن أية نسخة فيما أعلم من فهارس المخطوطات التي اطلعت عليها»، ثم استدرك الدكتور في الهامش فقال: «وجد من كتاب الاستغناء جزء صغير في المكتبة الوطنية التونسية، كما يوجد نسخة كاملة من الكتاب في تركية، ويعمل أحد طلابنا في تحقيقه». (11)

والظاهر مما ذكره الدكتور فرحات، أن هذا الكتاب قصد مؤلفه إلى أن يستغني القارئ به عن غيره، كما يدل عليه العنوان، وكأنه كان يهدف إلى جمع حصيلة الفهوم والعلوم التي حامت حول كتاب الله عز وجل.

ولم أعثر لحد الآن على ذكر الأدفوي داخل «الهداية» باستثناء ما جاء في تفسير الآية 164 من سورة الأنعام أن الأدفوي روى بسنده عن ورش أنه اختار من نفسه الفتح في (محياه). قال محقق الجزء الذي يضم هذه الآية: «ولا ندري – على التحقيق – أأخذ هذا الإسناد من كتاب» الاستغناء «وهو الظاهر، لما ورد في مقدمة مكي، أم أخذه من غيره من مؤلفات الأدفوي شيخه، أم حفظه مكي عنه». (12)

ويمكن تفسير غياب الأدفوي في لهداية أن مكيا اكتفى بالإحالة العامة في المقدمة، إلا أنه لا ريب في أن من فوائد العلم والمنهج أن مكيا لو ذكر شيخه في موطن الاستشهاد أو نقل عنه نصوصا مع نسبتها إليه لتبين لنا نوع ما نقله من كتاب الاستغناء، ولأمكننا ذلك – من خلال المقارنة مع المصادر الأخرى – من تبين ملامح المنهج الذي سلكه في اعتماد هذا الكتاب.

إن بقاء هذا الكتاب مخطوطا حتى الآن يضعنا أمام مشكل، وذلك أن عبارة مكي في المقدمة صريحة في أن عمدة «الهداية» كتاب «الاستغناء»، مع أن الذي يدل عليه حال «الهداية» من خلال مقابلته بجامع البيان للطبري – هو أن الطبري حاضر بقوة في «الهداية»، سواء أتعلق الأمر بالنقول والحاديث والقوال المأثورة، أم بالمعاني التي يردف بها الآيات مباشرة، أي إن الطبري حاضر بما يقوله وبما ينقله ويرويه.

والحق أننا لا نستطيع أن نجزم بشيء في هذه المسألة ما دام كتاب الاستغناء ليس بين أيدينا، لاحتمال أن يكون مكي قد نقل عن الطبري بواسطة الأدفوي، فيزول حينئذ ذلك الإشكال، غير أنا نحتاج حينئذ أيضا إلى التمييز بين طريقة نقل الأدفوي عن الطبري وبين طريقة نقل مكي عن الطبري، وذلك من أجل تحديد المادة المنقولة عن كل مصدر من مصادر مكي في التفسير، وفي غياب ذلك لا يبقى لنا إلا أن نستند إلى كلام مكي في تقديمه لكتاب الاستغناء على كتاب جامع البيان.

ب - «جامع البيان» لأبي جعفر الطبري (تـ:310):

ذكر مكي في المقدمة أنه أضاف إلى ذلك الكثير المجموع من «الاستغناء» ما أخذه من «جامع البيان»، وهذا يعني أن مكيا قد تنبه إلى فوائد في جامع البيان لم ينتبه إليها شيخه الأدفوي، أو أنه تنبه إليها، غير أنه أهملها لعدم انسجامها مع مقصده في كتابه وخطته في تأليفه، ويقال نفس الشيء في المصادر السابقة على الأدفوي، التي رجع إليها مكي: ككتب النحاس، والفراء والزجاج وغيرهم، وهذا يدل على جانب من شخصية مكي في الاختيار والاختصار والجمع والترجيح وبناء كل ذلك في نسق متماسك.

وقد نهج مكي – في تعامله مع كتاب الطبري – نهجا خاصا يدل على ملاحم من شخصيته وإبداعه، ويمكن إجمال هذا المنهج في النقاط التالية:

• قد يذكر معنى منقولا عن السلف بلفظ الطبري، وذلك أن من عادة الطبري في تفسيره أن يذكر معنى الآية بلفظه، ثم يستدل عبارة مطردة عنده وهي قوله: «ذكر من قال ذلك»، إشارة من الطبري إلى أن كلاه الأول إنما هو ترجمة عن كلام السلف – فيما بعد – وتفصيل لأقوالهم، ولعل هذا هو ما دفع مكيا – في كثير من الأحيان – إلى ذكر أقوال السلف بعبارة الطبري، فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى: "والمرسلات عرفا" (المرسلات:1) قال ابن عباس وابن مشعود ومجاهد أبو صلاح وقتادة: «والمرسلات» الرياح، «عرفا»: يتبع بعضها بعضا. (13)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015