وإذا كان المفسرون لم يدخلوا للقرآن من باب واحد وإنما دخلوا من أبواب متفرقة فلا أدري أي باب دخل منه هذا المفسر المتفرد؟!.
وإذا كان المفسرون يحاولون استخلاص المعاني من الآيات، فإن هذه الآيات لم تكن عند سيد قطب ألفاظا يحاول استخلاص المعاني منها فحسب؛ وإنما كانت كل آية عالما مليئا بالأصداء والأضواء والصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات التي تصل إلى النفس من منافذ شتى؛ العقل والحسّ والوجدان والضمير، وما العقل الذي يحاول استخلاص المعنى - عنده - إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة.
عاش سيد قطب في ظلال القرآن فأحس أنّ لكل سورة من سوره شخصية؛ لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص، ولها جو خاص يظلّل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو، ولها إيقاع موسيقى خاص إذا تغير في ثنايا السياق - فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة.
انظر إليه يصف سورة الرعد؛ فيقول: "هذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد وإيقاع واحد وجو واحد وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها والتي تفعم النفس وتزحم الحسّ بالصور والظلال والمشاهد والخوالج التي تأخذ النفس من أقطارها جميعاً؛ فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات التي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا وهو مستيقظ مبصر مدرك شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات، إنها ليست ألفاظاً وعبارات؛ وإنما هي مطارق وإيقاعات: صورها وظلالها مشاهدها وموسيقاها لمساتها الوجدانية، وهناك أن موضوعها الرئيس كموضوع كل السور المكية كلها على وجه التقريب هو: العقيدة؛ وقضاياها هي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعاً، ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث وما إليها، ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور المكية وفي غيرها من السور المدنية؛ فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة وفي ضوء جديد، ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد، إن هذه القضايا لا تعرض عرضاً جدلياً بارداً يقال في كلمات وينتهي كأي قضية ذهنية باردة؛ وإنما تعرض وحولها إطار؛ هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البعيد المفتوح، وهذه العجائب لا تنفد ولا تبلى جدتها؛ لأنها تكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك، وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجلات وآفاق وآماد وأعماق، وتعرض عليه الكون كله شتى مجالاته الأخاذة. والإطار العام الذي تعرض فيه هذه السورة قضاياها: هو الكون ومشاهده وعجائبه في النفس وفي الآفاق، وهذا الإطار ذو جو خاص، أنه جو المشاهد الطبيعية المتقابلة من سماء وأرض وشمس وقمر وليل ونهار وشخوص وظلال وجبال راسية وأنهار جارية وزبد ذاهب وماء باق وقطع من الأرض متجاورات مختلفات ونخيل صنوان وغير صنوان، وتطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة؛ يتناسق التقابل المعنوي مع التقابلات الحسية وتتسق في الجو العام، ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير الشمس والقمر، ويتقابل ما تغيض به مع ما تزداد، ومن أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، والخوف والطمع تجاه البرق؛ ولأن الجو جو الطبيعة من سماء وأرض وشمس وقمر ورعد وبرق وصواعق وأمطار وحياة وإنبات - يجئ الحديث عما تكنه الأرحام من حيوان ويتناسق غيض الأرحام وازديادها مع سيل الماء في الأودية ومع الإنبات؛ وذلك من بدائع التناسق في هذا القرآن"
والحق إنني لا أحس أن سيد قطب يتعامل مع القرآن بعقله بل أحس أن القرآن يجري في عروقه، فهذا الذي سجله في الظلال هو الذي أستطاع تسجيله من أحاسيسه ومشاعره فكيف بتلك الأحاسيس والمشاعر الكامنة في نفسه والتي لم يستطع إخراجها وهو يتأمل القرآن العظيم.
غفر الله لهذا الشهيد العملاق ما نعرفه ولا نعرفه إنه سميع مجيب
ـ[خلوصي]ــــــــ[19 صلى الله عليه وسلمpr 2010, 09:34 ص]ـ
تقول شيخنا أبا مجاهد:
بسم الله الرحمن الرحيم
¥