وفي معمعة التوحيد المنهجي هذه وأنت تستشعر برد المبشرات بثمرة البدايات، تصطدم بمن ينعتُ "التفسير التطبيقي بأنه مجال فوضى يدخله كل من هب ودب ... وأنه لم يصغ بعد الصياغة التي تقيم صلبه وتشكل أركانه وتضبط أنساقه القاعدية والمنهجية ... بل بقي عريا من أي سياج نظري نقدي له نسقه الذي يحكمه، ومنطقه الذي يقننه ويقعده ... ومن هنا كان التفسير التطبيقي مرتعا للخلل والخطل، في حين تجد علم أصول الفقه مثلا أو علم النقد الحديثي يفوقان علم أصول التفسير بكثير، بانضباط المصطلح ووجود التقعيد والمنهج بالمعنى الحقيقي [1].

إن إشكالية إعادة النظر في نسقية مباحث قواعد التفسير وعلاقة أصول الفقه بأصول التفسير وقواعده تأتي في مقدمات مراجعة مناهج قراءة الوحي، إلا أن تشهد بأن (التفسير التطبيقي بقي عريا [2] من أي سياج نظري يقننه ويقعده) فهذا يعني أن مفسري الأمة منذ 14 قرنا كانوا يهرفون بما لا يعرفون، وإلا القول إن أصول الفقه أو علم النقد الحديثي يتميزان بوجود التقعيد والمنهج الحقيقي، فهذا لا معنى له إلا توسيع الشقة بين الشيء وذاته، وتكريس التجزئة بين أدوات وآليات الاستمداد من الوحي، وكأن الوحي مصدرا وطبيعة، لم يأت من إلَه واحد، ولا كان بلغة واحدة ولا على يد رسول واحد؟

تلك بعض موجبات المداخلة وبعضها الآخر توجبه مراجعة مباحث علمي الأصول، إسهاما في بناء نسق منهجي منتظم متجانس مستوعب يحيي الأمة كما أنشأها أول مرة.

صحيح أن علم أصول التفسير من حيث كونه علم مصادر وآليات وقواعد فهم الوحي وإفهامه، ومن حيث كونه محور مناهج قراءة الوحي يحتاج إلى مراجعة نقدية تحديدية تحيينية، تعيد إلى العلوم الشرعية وحدتها وحيويتها وشموليتها، وتجتث من مباحثها ومفاهيمها ما يثبت النقد العلمي أنها طفيليات علقت به وتكاثرت في ظروف فكرية وتاريخية معينة، لإعادة إحكام الصياغة المنهجية ورصف بناء المباحث، وأحسب أن الدعوة إلى تحقيق مشروع إعادة بناء علم أصول التفسير استجابة لما سطرته الأقلام والأفكار ذات البعد التوحيدي المعاصرة [3] هي ما تحتاج إليه المرحلة -وهي واجب العصر- بتعبير الأستاذ الشاهد البوشيخي، أي: بناء نسق منهجي ينتظم ويستوعب بمقوماته الوحي بشقيه القرآن والسنة، وقضاياه الموضوعاتية والمقاصدية: العقيدة والأخلاق والنظم العملية، فكل ذلك شريعة وكل ذلك حكم وأمر من الحاكم الآمر، لا ترى فيه عوجا ولا أمتا: يصدق بعضه بعضا وحيا وموضوعا ومقاصد.

وإن الذي صار عريا من السياج الناظم هو فكر المسلمين في مرحلة الركوض والذي صار مجال فوضى ودخله كل من هب ودب هو عالم المسلمين يوم أن ترهلت لحمته ووهن نسيجه الحضاري فتنامى في جسمه ?من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين? [سورة النساء / الآية: 45]، فلا أصول الفقه سلمت ولا الفقه نجا، ولا علم نقد الحديث منعهم من التقول والافتراء.

فعلم أصول الفقه -بالمفهوم القائم والموروث من عصور الانحطاط- مع القول بعلميته، ها هم أهله يتنادون بتجديده بتنقيته من المنطق الأرسطي، وهيمنة الفكر الكلامي، ومما أقحم فيه من مباحث معرفية تعيق التوظيف والإجراء، كشرع من قبلنا وتأخر البيان عن وقت الحاجة، ومما تشابه منه بالقواعد الفقهية، ومن إشكالية مبحث اتصال وانفصال المقاصد، الخ… وإن نظرت إليه من جهة المذهبية الفقهية ترى الاختلاف في عدد مصادر التشريع وفي ترتيبها، مرورا بمباحث الدلالة ومنهاج توظيفها ومع كل هذا فهو يؤدي وظيفته بشكل عام، كما يؤديها علم أصول التفسير وقواعده.

بل إن علم أصول الفقه بإجماع علوم القرآن وأصول التفسير هو جزء لا يتجزأ من علم أصول التفسير وقواعده، ولولا ما تراكم على هذا المنهج من تصورات تجزيئية ومفاهيم انفصالية والتباعد الذي أنشأته جفوة الاصطلاح وشدة التقسيم، لكان لمنهاج الاستنباط من الوحي شأن آخر.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015