ونحن اليوم إذا أردنا الإحسان في بناء المناهج والتوفيق في توظيفها، مطالبون بإعادة مفهوم أصول الفقه إلى المعنى الأصلي الذي نشأ به وعنه هذا العلم ضمن العلوم المساعدة والضابطة لفهم القرآن الكريم إذ واقع الدرس الأصولي عند المتأخرين وكما هو عليه أمرها في المؤلفات المدرسية تعريفا وتصنيفا وممارسة، انحصر توظيف قواعده فيما عرفوه بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية [4].

ويعنون بالأحكام العملية ما ليس اعتقادا، كالوحدانية والرسالة والعلم باليوم الآخر وإن سماه السلف الفقه الأكبر، وما ليس أخلاقا وقيما، وينضم إلى هذا الإخراج القهري ما تعلق بالسنن الكونية والاجتماعية وما يخدمها من القصص القرآني.

وهذا الحصر المفهومي فتح ممارسة سلبية في عقلية المجتمع الإسلامي أثرت على التأليف والتصنيف في الفكر الفقهي ومنه إلى التأثير في أخلاق وسلوكيات المجتمع الإسلامي يوم أن تخلت مؤلفات الفقه الإسلامي عن مباحث العقيدة ومباحث الأخلاق، لتفقد بذلك أعمال الجوارح روحها وحيويتها فضعف التدين في الناس بضعف منهج فقه الدين.

ولقد تأثر التفسير التطبيقي بذلك يوم أن اجتزأ من القرآن آيات الأحكام وصاغها على منهج الفقهاء، إلا صنيع أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن".

إن منهج التصحيح يلزمنا بالرجوع إلى أصل نشأة هذا الفن من العلوم، علم أصول الفقه بمعنى فهم الشريعة بمعناه الجامع، والبحث في ذلك يحيلنا إجماعا على أن مفتقه هو الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، وسبب تأليفها شاهد على أنها أنجزت في مبادئ وقواعد فقه القرآن كل القرآن، ودون استثناء.

يكتب عبد الرحمن بن مهدي الحافظ الإمام (ت: 198) إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا في معاني القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة [5] والشافعي في مقدمتها ينص على أن ما يؤسسه هو لفهم القرآن بقوله: "كل ما أنزل في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة ... ومن أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه… وليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" [6].

نتساءل باحثين: من خصص أحكام الله بما اصطلح عليه بالأحكام الشرعية العملية وأخرج منها الأحكام العقدية والأحكام الأخلاقية، ومن أوقف النوازل على أفعال الجوارح، واستثنى منها أفعال القلوب وهي الأصل في أفعال الجوارح، ومن حاصر أصول الفقه بمعنى آليات فهم الوحي في شق واحد من أجزاء الشريعة.

إن ابتداء أمر الأصول والقواعد ونشأة الآليات والضوابط يوم أن احتيج إليها لبناء منهاج نظري للبيان، كان لبيان ما يحتاج إلى البيان، في القرآن. والسنة تبع له، وإن كانت السنة أداة رئيسة من أدوات البيان. وعلماء الشريعة الأوائل، بنوا قواعد البيان للوحي بكل أبعاده الموضوعاتية، ولم يزعم أي علم من علوم الشريعة استقلاله بقواعد البيان، مستغن بنفسه عن غيره، وإن عوامل اجتماعية وبيئية وفكرية معينة هي التي خصصت أصول البيان، بعد أن تأسست أصولا لفهم الوحي، بما اصطلح عليه بأصول الفقه بمباحثه المعروفة وهي لا تكفي وحدها في نظرنا للاستمداد من الوحي ولا إلى بيانه.

إن القاعدة في الإطار التفسيري توظف جنبا إلى جنب مع قواعد بلاغية وعقدية وأخلاقية واجتماعية وتربوية انسجاما مع موضوعات الوحي وقضاياه فضلا عن الاستفادة من علم القراءات وعلم الرسم القرآني، ومثل هذه الأدوات تخلو منها مباحث أصول الفقه.

وما لم نحرر مفهوم الفقه ومفهوم الحكم ومفهوم الشريعة من قيد المصطلح الذي ألصق به، ونرجع به إلى المفهوم القرآني، لن نحقق النسقية المنهاجية التي تستلزمها نسقية الوحي. وتلك قضية مطلوب البث فيها على استعجال بالمصطلح القضائي.

ومع ما قيل في علم أصول الفقه وفي علم أصول التفسير وما يمكن أن يقال، فإن هناك مباحث عديدة تمثل القاسم المشترك بينهما، وإن توحد المصطلح والمفهوم لهذين العلمين أو على الأقل سريان عرف العموم والخصوص بينهما يسمح بفتح باب مراجعة جملة من المباحث الجامعة ومن ذلك:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015