يعد السياق مفهوماً تداولياً راسخاً، ولعل مستعمل اللغة أكثر وعياً به من غيره من المفاهيم اللغوية، ولهذا عده جون لا ينز Lyons اصطلاحاً سابقاً على النظرية والوعي بالمفاهيم 75 ويمكن التمييز بين أنواع ثلاثة من السياق:
أ. السياق المقامي:
ينظر عادة إلى المقام على أنه معيار محكم من معايير الحكم على العبارة بالمقبولية النحوية، إذ إن العبارات غير المكتملة نحوياً من جهة التركيب لكنها منسجمة مع المقام تصبح عبارات مقبولة وقابلة للتأويل. ولقد ذهب تودوروف إلى أن عبارة بسيطة من مثل: "علينا أن نغادر هذا المكان من هناً"، لا يمكن تفسيرها إلا في سياق محسوس.76 ولنأخذ الفعل الكلامي الآتي: "اعطني خبزاً" فإن الجهل بمقام الخطاب يؤثر في تأويلنا له فنتردد في عده أمراً أم التماساً، ومن هنا اكتسب سبب النزول فاعلية كبيرة في تأويل النص القرآني، وعلماء التفسير تعاملوا معه باعتباره مؤشراً على المعنى وليس منبع المعنى وإطاره، فقالوا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وجعلوه مرجعاً يحتكم إليه حين الاختلاف في التأويل، ويمكن صياغة القاعدة التأويلية الآتية:
[إذا تعارضت التأويلات، فإن أقربها إلى الصواب أكثرها انسجاماً مع مقام الخطاب]
ب. السياق النصي:
يرى اللسانيون أن المعنى في النص خاضع لعملية التركيب سواء على مستوى الجملة أو على مستوى الخطاب، وبموجب هذا يكون فهم اللاحق مستنداً إلى فهم السابق. وتكمن فاعلية النص أو التركيبي في أنه ينظر من خلاله إلى النص في كليته وانسجامه وليس بصفته نتوءات مجتزأة لا يشير بعضها إلى بعض، وكل معنى منتزع من السياق بالضرورة معنى لا يعبر عنه النص.
[إذا تعارضت التأويلات فإن أقربها إلى الصواب أكثرها انسجاماً مع سياق الخطاب.]
ج. السياق الثقافي:
تكمن إجرائية هذا المفهوم في كونه يراعي المقام الثقافي العم الذي يمثل مرجعية المتلقي. ولقد اعتمد اللساني فيرث على مصطلح السياق الثقافي في التأويل واعترف هو وتلامذته منهم هاليداي وإيليس متضمناً سياقات ثقافية جزئية، ومفاد هذا الاصطلاح أن تأويل النصوص لا يتم إلا بجعلها تتسق مع سياق ثقافي محدد.77 ويرى إيكو أن النص حينما يوجه إلى جماعة من القراء فإن الكاتب يعرف أنه سيؤول لا بحسب مقاصده هو، ولكن بحسب استراتيجية معقدة من التقاطعات بين القراء وقدراتهم اللغوية لهذا التراث الذي تشكل بواسطة استعمال اللغة. إن فعل القراءة في نظر إيكو يلزمه اعتبار هذه العناصر مجتمعة على الرغم من أن قارئاً واحداً قد لا يستطيع استيفاءها.78
إن تاريخ تأويلات القرآن الكريم وتقاليد اللغة العربية تمثل خصائص للمجال التداولي العربي الإسلامي في مجال التفسير، وعلينا ألا نسقط نظريات تأويلية غريبة على قانون التأويل العربي الإسلامي ما لم تندرج في سياقه الثقافي.
ففكرة الاستقلال الدلالي، وموت المؤلف، وانصهار الآفاق، مفاهيم يرفضها العقل الإسلامي في مجال مساءلة النص، كما أن الوساطة التأويلية فكرة غير معهودة عند المسلمين، ولا يمكن بحال الانطلاق من مثل هذه الأفكار لبناء تأويلات للقرآن.
[كل تأويل بني على غير مقتضى قانون التأويل العربي فهو تأويل فاسد]
3 - الانسجام الدلالي:
إن كان مدار السياق النصي على الربط، فإن مدار الانسجام على الترابط، ويكاد التأويليون يجمعون على أن وظيفة المؤول هي البحث عن انسجام النص، وهم يختلفون عن أصحاب نظرية التأويل الشكي أو ما أطلق عليه نيوتن: الهرمينوطيقا السلبية ( Negative Hermeneutic)، فأصحاب هذه النظرية يرون أن روح التأويل هو الكشف عن تناقض النص وتفككه واختزال أكاذيب الوعي وأوهامه، وأهم روادها في اعتقاد نيوتن هم ماركس ونيتشه وفرويد.79
ويعرف إيليس صلى الله عليه وسلمllis التأويل قائلاً: "التأويل ... هو فرضية في التنظيم العام والانسجام لكل عناصر المكونة للنص الأدبي".80 وإذا كان افتراض التفكك يعيق من عملية التأويل للنص الأدبي، فإن تأويل القرآن لا يقبل مثل هذا الافتراض، إذ يتعامل المؤول مع نص بلغ درجة الكفاية اللغوية ووصل مرتبة الإعجاز، وله مقاصد معرفية كونية واضحة.
ومن غير الممكن العثور على تعارضات دلالية فيه، فهو كلام الله المنزه عن التناقض والاختلاف. لقد كان علماء التفسير على وعي بقضية الانسجام فجعلوا من أصول التفسير: تفسير القرآن بالقرآن، فما غمض هنا توضح هناك، وما أجمل في موضع فصل في آخر. ويُبيِّن إيكو كيف أن التخمينات التي يصدرها المؤول على النص –الذي ينبغي أن يؤخذ في وحدته العضوية- لا تقبل إلا إذا تلاءمت مع انسجام النص الذي سينكر التخمينات الاعتباطية.
[كل تأويل أدى إلى تعارض أجزاء النص هو تأويل فاسد]
وأخيراً لقد عرضنا باختصار أهم الضوابط التأويلية التي اكتسبت إجرائية معتبرة في مجال تفسير النصوص، والتي أخذناها من المجال العربي الإسلامي، والمجال الغربي. وواضح أن جانب التطبيق هو ما ينقص هذه المحاولة النظرية المتواضعة، وهو ما سنحاول الوفاء به في بحث قريب، نطبق فيه تلك الضوابط على النص القرآني، وهو ما سيظهر بجلاء أهميتها في استخلاص المعنى القرآني، والذي سيكون له إن شاء الله أثر تسديدي معتبر في إعادة النظر إلى لغة القرآن ومضامينه.