ويسعفنا الإمام ابن قيم الجوزية (توفي751ه) بتقسيم إجرائي مفيد للدلالة، مرتبطة بسياق التواصل بين المرسل والمتلقي، فدلالة النصوص عنده: "نوعان: حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه دلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة لا تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين في ذلك".64
والظاهر أن ابن القيم وإن كان مهتماً بإعادة الاعتبار إلى الدلالة المركزية في النص في علاقتها بمقصدية المتكلم في إطار نموذجه المعرفي الساعي إلى إعادة ترميم المرجعية الإسلامية بالبحث عن الثابت، وتقليص نفوذ المتحول أي تعدد المعاني عن طريق التأويل والقياس، فإنه لم يبخس المعنى الذاتي حقه، كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين، حيث استدلوا بهذا النص في سياق نقدي للدلالة الذاتية،65 بل نراه يسوق كثيراً من اجتهادات الصحابة? بوصفها دليلاً على إثراء النص بالدلالة الإضافية.66
إن إعمال المقصدية في تأويل القرآن الكريم تعصم "القارئ" من إنتاج تأويلات تصطدم مع المقاصد الربانية، ويمكن صياغة القاعدة التأويلة الآتية:
[كل تأويل تعارض كلاً أو جزءاً مع مقصد من مقاصد الشريعة فهو تأويل فاسد كلاً أو جزءاً.]
غير أنه من الصعب تحديد أبعاد المقصدية تحديداً منضبطاً، إذ إنها تتعلق بالمتكلم، أو مرسل الخطاب، والذي ليس له وجود عيني حين مباشرة عملية التأويل، ولهذا السبب عدّ بعض العلماء الإحاطة بالمقصدية غير متوقفة على العلم باللغة، لأن المقاصد عبارة عن معان لها تعلق بالذهن لا بالوضع اللغوي.67 ولقد نحا هذا المنحى الإمام الشاطبي في الموافقات، إذ عدّ المصالح والمفاسد معقولات مجردة عن اقتضاء النصوص،68 وليس معنى هذا إهدار قيمة الدلالة النصية عند الإمام، إذ أنه حدد مجال إعمالها فيما له وجه تعلق بالنصوص.69 والحقيقة أن ما ذهب إليه الشاطبي متعلق بالمقاصد المعنوية، ومن الخطأ تعميم هذا الحكم على كل أنواع المقصودات المبثوثة في كل النصوص. ويسعفنا الأستاذ طه عبد الرحمن هنا بتقسيم جديد في غاية الأهمية لنظرية المقاصد عند الشاطبي، ويتمثل ذلك في فك التعارض المتوهم في كلام الشاطبي، إذ نراه يشترط اللغة في الاستنباط من النصوص تارة، ويدلل على عدم أهميتها في تعيين المقاصد تارة أخرى.70 ويرى طه عبد الرحمن أن مصطلح المقاصد كما استعمله الشاطبي ليس متمحضاً لدلالة واحدة كما هو متداول بين الدارسين، بل يدور على معان ثلاثة:
1 - المقصد بمعنى المقصود، ويجمع على "مقصودات" ومعناه انعقاد الدلالة وحصولها في الكلام.71 فالمقاصد بهذا المعنى لها تعلق أكيد باللغة، وهو ما ذهب إليه الشاطبي نفسه.
2 - المقصد بمعنى القصد ويجمع على "قصود"، ويراد به المضمون الشعوري أو الإرادي.72 ومعلوم أن المقصد بهذا المعنى له وجه تعلق باللغة متى كانت الإرادة متعلقة بالنصوص، وإلا فلا تشترط اللغة في استنباطها.
3 - المقصد بمعنى حصول الغرض، ويجمع على "مقاصد" 73، وهذا هو المعنى الشائع والمتداول بين الدارسين. ولقد دلل الشاطبي على أن هذا النوع معقولٌ ولا تعلق في استنباطه باللغة، إذ يستوي العربي والعجمي في معرفة مقاصد الشريعة.74
وعلى كل حال فسواء أكانت المقصدية متعلقة بالنص، أم كانت مجردة عن اقتضائه، فإنها تبقى مؤشراً من مؤشرات المعنى، وفضاء دلالياً يسمح للنص بإفراز دلالته الخاصة به، ويحد من سلطة المؤول في إملاء تصورات عليه. وجدير بالإشارة هنا أن المقصدية عامة، وليس هناك إمكانية لتحديدها إذ إنها تدور مع النص والعقل. ولهذا يشترط في إعمالها عدم ربطها بالمنزع الإيديولوجي أو العقدي، فالمعتزلة –مثلاً- تأولوا القرآن على مقصديات خاصة بهم، كالعدل والتنزيه والتحسين والتقبيح العقليين، ولما اعتقدوا العدل –بمفهومهم طبعاً- مقصدا إلهياً، تأولوا العبارات الموهمة للظلم على المجاز دون أن يسلم لهم بالتأويل الذي حملوا عليه عدل الله تعالى وظلمه، فالمقصدية المعتبرة عندنا هي ما تضافرت نصوص الشريعة على تأييدها باستقراء هذه النصوص، وليس بمجرد تدعيم المذهب الاعتقادي.
2 - السياق:
¥