لم ينف أصحاب نظرية التأويل الموضوعي مبدأ الاختلاف في التأويلات وتعددها لأن الإيمان بالقراءة الواحدة قتل للنص، وسقوط ساذج في وهم المطابقة بين النص والقراءة. إن ما أسهموا في تفنيده هو القول بالانفتاح المطلق للنص على أي قراءة أيّاً ما كان اقترابها أو ابتعادها عن بنية النص الأصلية ومقصد المؤلف، وفي هذا يقول أحدهم: "أن النصّ ينتج قراءات لا نهائية وهذا لا يعني أنه يسمح بأي قراءة ممكنة."49
وإذا لم نستطع من هذا المنظور تحديد أحسن التأويلات فإننا نستطيع –على الأقل- تعيين التأويلات الخاطئة.50 والمؤول في اعتقاد تودورف Todorov حين يتخلى عن النص ليكتب عنه فإنه يقول شيئاً لا يقوله النص المدروس. وإن ادعى أنه يقول الشيء نفسه إلا أنه في الواقع الأمر يكتب نصاً جديداً."51
ويرى ميللر J. Hillis Miller أن بعض التأويلات تمسك -وبعمق- أكثر من غيرها ببينة النص،52 ولهذا علينا أن نأخذ النص بصفته مؤشراً على تأويلاته الخاصة به.53 لقد اعترف أمبرتو إيكو Umberto صلى الله عليه وسلمco في دراسته لجدلية النص والمؤول أنه -في السنين الأخيرة- حصلت مبالغة في التركيز على حقوق المؤولين،54 ولهذا فهو يرى أن فعل القراءة يمكنه الانطلاق من نقطة إلى أي نقطة، ولكن المسالك خاضعة لقواعد مترابطة أعطاها التاريخ الثقافي –بصورة معينة- الشرعية.55
فالحضارة الوسطية وإن كانت وفية لتعدد التأويلات، فإن التأويل يخضع عندها لضوابط محددة بدقة،56 بل إن النقد التفكيكي والقريب من تجارب النقد الباطني لا تنفلت العملية التأويلية عنده من نسق من القواعد والمسلمات.57
فوظيفة هذه الضوابط تظهر في الحد من حرية المؤول وخلق تآخذ مثمر بين بنية النص ومقاصد المؤلف وأفق انتظار المتلقي، ولذلك أكد إيكو أن القارئ يلزمه أن يساءل النص "لا أن يسائل نزواته الذاتية، في جدلية بين الإخلاص والحرية."58
وسنقتصر في الحديث عن ضوابط التأويل على خمسة ضوابط هي:
1 - المقصدية، 2 - السياق المقامي، 3 - السياق النصّي، 4 - السياق الثقافي، 5 - انسجام النص.
1 - المقصدية
من الآراء السائدة الآن في النظرية التأويلية المعاصرة والتيار التداولي في مجال اللسانيات أن النص موئل تقاطعات بين المرسل والبنية النصية وملتقى الخطاب، ولم يعد سائغاً النظر إلى أن النص في ذاته كما فعلت التصورات الشكلانية إلا من قبيل بناء النماذج وتسهيل عملية التصنيف، إذ أصبح النص عبارة عن أفعال كلامية منجَزَة من المؤلف يقصد بها أنماطاً من تأثير المتلقي. ولهذا أصبحت مقاصد المتكلم مؤشرات حاسمة في عملية التأويل، ومثّل إلغاؤها إلغاء لجزء معتبر من معمار المعني النصي إن لم يكن إعداماً مطلقاً له. ولعل من أبرز المدافعين عن المقصدية باعتبارها ضابطاً من ضوابط التأويل الأمريكي هيرش Hirsh الذي هاجم أفكار النقد الجديد وتأويله غادامير لأنهما يلغيان قصد المؤلف من الاعتبار.59 ويؤدي هذا في نظره إلى أن عدم محدودية المعنى في النص يصبح معها التأويل كليلاً،60 بل إن واحدًا من مناصري المقصدية وهو ب. ج. جول ( Jull) في كتابه التأويل يعدّ كل تأويل تعارض مع مقصدية المؤلف تأويلاً فاسداً، أما الاختيار من بين الاحتمالات الدلالية المتعددة للنص فينبغي ان يتجه على المعنى الذي قصده المؤلف ما دام المعنى إنتاجاً لفعل كلامي لا ينفك عن قصد المتكلم،61 وتصبح وظيفة التأويل حينئذٍ هي السعي لاكتشاف مقصد المؤلف واعتباره محدداً للتأويلات المقبولة، فالمعنى –في اعتقاد كرايس- ينبغي النظر إليه في صلته بالمقصدية.62
وفي تراثنا العربي الإسلامي نجد تصورات دافعت بنحو جدي عن المقصدية، وكانت هي المهيمنة في مجالنا التداولي، إذ تميز الفكر اللغوي عند العرب والمسلمين بميزة تداولية ( pragmatic) أصيلة تربط الخطاب بمرسله ومتلقيه، ونظر اللغويون إلى اللغة على إنها إنجاز فعلي واقعي وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي. فالمعنى الحرفي عند الآمدي غير موجود لأن المعنى غير متعلق بأوضاع الكلم فحسب، ولكن بقصد المتكلم وإرادته.63 وهناك حركات إعرابية تعود إلى قصد دلالي من مرسل الخطاب، كما أن ظواهر الحذف والمجاز والكنايات وغيرها لا يمكن فهم المقصود منها إلا بربط الخطاب بسياقه التداولي، هذا السياق الذي يحتل فيه المتكلم مكاناً معتبراً.
¥