تتفكك لكي يحل محلها الأفراد، وراح كل فرد يختار لنفسه ما هو صالح وما هو غير صالح، ويقول هذه إحداثياتي ومرجعياتي ... وهذا ما يؤدي إلى العدمية."40
لقد أسهم غادامير ( Gadamar) بفلسفته التأويلية في تحطيم أطر المعنى الموضوعي إلى حد بعيد إذ ساند فكرة الاستقلال الدلالي للنصوص، تلك الفكرة التي تعني أن "اللغة المكتوبة كلَّها تظل مستقلة عن العالم الذاتي لأفكار الكاتب الفردية ومشاعره".41 ولهذا فهو يلغي الحقيقة في النص، وإحالته على معنى خارجي من ذاته، مانحاً بذلك –على غرار النقد الجديد- الأهمية الكبرى للتأويل.42
ويرفض غادامير الاعتراف بثنائية المعنى والدلالة، وهو تقسيم يراعي حق النص في الإبلاغ وحق المتلقي في التأويل، فالمعنى ( meaning) يشير إلى مقصد النص في زمنه الخاص به والدلالة أو المغزى ( signafication) تفيد ما يدل عليه النص في زمن القارئ.43
فما دمنا –في نظر غادامير- لا نفهم النص إلا في علاقاته بمقامنا، فليس هماك إذاً فرق بين المفهومين.44
والحقيقة أن كثيراَ من الانتقادات قد وجهت إلى نظرية الاستقلال الدلالي للنص اللغوي، غير أنها لم تستطع مواجهة المدّ الكاسح لنظريات النقد الجديد، فترسّخ مبدأ الحرية في التأويل وغدا مسلمة من مسلمات الاشتغال التفسيري.
وانتقلت أفكار النقد الجديد إلى المجال العربي، ووجدت مناصرين كثيرين ولا سيّما من الذين اقتنعوا بضرورة تجاوز المرجعية الجمعية للأمة الإسلامية، وناصروا تحطيمها، وأقاموا مقامها مرجعيات بديلة شملت مجمل الفلسفات الوضعية، والعقائد المادية التي عرفها الغرب منذ عصر النهضة. غير أن مبدأ الاستقلال الدلالي والإيمان بحرية التأويل المطلقة ظلت مرتبطة بالنصوص الإنسانية ولم يتجرأ معتقدوه على تطبيقه على النص القرآني، إلا أن تراجع المؤسسات التقليدية في المجتمع الإسلامي، وقوة الصراع بين الفكر الإسلامي ونظيره العلماني فك كثيراً من الأصوات من عقالها، وأصبح من السهل الادعاء بأن القرآن الكريم نص لغوي وحسب، وأن المدخل اللغوي كافٍ لتفسيره واستخلاص معانيه.
يرى الدكتور حسن حنفي أن معنى النص قد "يتغير حسب الأحوال النفسية للقارئ الواحد، وحسب الفروق بين الأفراد وتبعاً للبيئات الثقافية والحضارات والعصور. وقد يأخذ النص الواحد معاني مختلفة طبقاً لمراحل العمر الواحد، وطبقاً للتجارب المكتسبة حتى ليبدوا النص مساوقاً وتابعاً لتطور الفرد في مراحل عمره، وكأن أعماق الشعور تطابق تطابقاً موضوعياً مستويات النص."45
النص إذاً حامل للخبرة، والقراءة خلق جديد له، واكتشاف لأبعاد ربما لم تكن مقصودة في نشأته الاولى.46 ولهذا فإن المفسر لا يحتاج إلى فهم المعنى التاريخي، فهو لا يذهب "إلى تاريخ النصوص منذ تدوينها ليفهم معانيها التاريخية، وتطور معاني الألفاظ قاضياً السنين في بطون المراجع وأمهات المصادر ومعجمات اللغة والموسوعات. بل يقرأ النص، وفي غمضة عين يفهم معناه ويستعمله بوصفه حجةً. فالنص بهذا المعنى ليست له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يقرأ كل عصر فيه نفسه."47
ولأن عملية التفسير ليست بهذا المعنى سوى التطابق بين النص -باعتباره قالباً متشكلاً- وطبقات الشعور لدى المؤول، "فإنه لا يوجد تفسير خاطئ، بل يوجد تفسير قصدي."48
وسنرى كيف أن مثل هذه الآراء لا تصمد أما النقد الذي وجهه إليها أصحاب نظرية التأويل الموضوعي من أمثال جول وإيكو وغيرهما. لقد أدى البروز القوي لنظريات التلقي والتأويل واستقواء الاتجاهات التداولية في المجال الألسني إلى إعادة الاعتبار مرة أخرى لأهمية –بل لضرورة- تحديد ضوابط للتأويل تعصم المعنى من الذوبان، وتحد من سلطة القارئ في إملاء أهوائه وميوله على النص. وسنعمل على الجمع بين الحديث عن هذه التصورات والضوابط التي تقترحها، مقارنين بينها وبين ما يوازيها من ضوابط التأويل في الفكر الإسلامي.
* ضوابط التأويل:
¥