وحين ((يبشرنا)) بظهور محاولات تجديدية في مستوى المنهج حرية بالدرس والتحليل .. لم يتكرم علينا بذكرها، أو حتى الإشارة إلى بعضها، وان كنا نستشف من عباراته انه يقصد محاولات معينة، ما تزال تلاحقها علامات الاستفهام. لنقف قليلا أمام عباراته التي تقول: ((هذه المحاولات الحديثة ـ ولن لم تنجز عملا تفسيريا كاملا ـ فإنها أدركت ضرورة تأسيس منهجية تجديدية لقراءة النص القرآني ـ الأهم في هذه المحاولات أنها استمدت جانبا من وعيها هذا التراث التفسير نفسه)) (19).
على هذا المنوال يستمر النيفر في عدم البوح بما يقصده، ويظل مراده مخبوء وراء حشد من الأحكام الجاهزة، ووراء ترديد المصطلحات، ولا دعوة الى مشروعيته حديثة، هي ذات المشروعية التاريخية في سياقها الخاص واليت تبيح للمشروعية الحديثية ((أن تبرز اليوم ـ إن هي تمكنت ـ من معرفة تجديدية تقترح قراءة أخرى للنص القرآني)) (20).
وينأى النيفر عن الخوض في طبيعة هذه ((القراءة)) الأخرى للنص القرآني، ليتسائل عن جدوى القراءة ((المغلقة)) للنص القرآني .. وبهذا التساؤل، بدا انه لاشيء يبرر إسناد السمة الاطلاقية الى المنهج التفسيري ((التراثي)). ومن ثم توالت أسئلة أخرى.
يقول النيفر: ((أول الأسئلة التي تعتبر جزءا من أجزاء الإشكالية التي تطرح على الباحث، عند دراسة المنهج التفسيري المعاصر يتصل بطبيعة العلاقة مع التراث التفسيري القديم، فما لم يحدد المفسر المعاصر موقفا واضحا من هذا التراث، فإنه من المستبعد توقع تجديد منهجي من قبله.
ينجر هذا السؤال الى سؤال ثان موصول بالإشكالية التي نحاول بسطها وهو المهتم بالعدة المعرفية التي يحتاجها المفسر اليوم لإرساء منهجية حديثة لتفسير القرآن.
أما ثالث الأسئلة، فهو الذي يعتني بتحديد وظيفة المفسر وطبيعة العلاقة بالنص القرآني)) (21).
وبدلا من أن ينهمك الكاتب بتقديم إجابة عن تساؤلاته هذه، فإنه ينأى بعيدا ـ أيضا ـ كعادته في المرات السالفة، ويترك القارئ في حيرة من أمره، هل يتبنى النيفر التعامل الواعي مع التراث، فيقبل الصحيح منه، ويرفض السقيم، أم انه يرفض التراث جملة وتفصيلا، بعضه وسمينة؟
إنه لم يوضح طبيعة هذا الموقف المطلوب، تماما كما هو الحال مع السؤالين التاليين:
وعدد من الإثارات السابقة. ويكتفي بإحالة القارئ إلى أن ((هذه الأسئلة ستصاحبنا طيلة هذه الدراسة التي نحاول من خلالها التعرف على أبرز الجهود التفسيرية المعاصرة، بالاعتماد على الخصوصية المنهجية لهذه الجهود. وهي عين الأسئلة التي تصنع في تضافرها إشكالية هذا البحث، وإشكالية جميع المفسرين المعاصرين، وهي كيف يكون التفسير معاناة للحكمة إلالهية بمشاغل الواقع؟ أو كيف يصبح التفسير هو جدل الوحي مع التاريخ؟)) (22).
وقبل أن يخوض النيفر في التيارات والمدارس المعاصرة يذكّر القارئ، بأن ما قام به ((ليس عملا استقصائيا كاملا، لكنه يبقى معالجة تحرص على وضع أكبر عدد من الدراسات القرآنية والتفسيرية ضمن تركيب إشكالية غايته إبراز مجالات التجديد في المستويين المنهجي، والمعرفي)) (23).
ولا تخطئ العين الباصرة أن النيفر حاول الالتفاف على وعي القارئ، حينما ذكر بأن بحثه ليس عمى استقصائيا، ليسوغ لنفسه أنتهاج طريقة انتقائية ـ تخدم استنتاجاته أو حتى مآربه ـ فيطرح في الواجهة أعمالا ثانوية ـ ويتغافل عن نتاجات جادة معمقة ـ كما سنرى -، وهذه ـ لعمري ـ خلاف الأمانة العلمية والبحث الموضوعي.
4 - المناهج التفسيرية المعاصرة
يمهد النيفر لدراسة التيارات المعاصرة بتقسيم النتاجات التفسيرية إلى قسمين كبيرين: أحدهما يطلق عليه ((التفاسير المنجزة))، والقسم الثاني يقتصر على تقديم منهج دون أن يتم تطبيقه على النص برمته، أو على جزء مهم منه .. ويصف هذا الأخير بأنه شرب جديد من التآليف يمكن أن نسميه ((القراءات المقترحة)).
في هذه الأثناء يشير النيفر إلى مدى التباين بين منهجين معاصرين؛ يتبنى أحدهما ((مفهوم النص المقدس))، فيما يرفع الثاني [أصحاب ((القراءات المقترحة))] مفهوما جديدا هو مفهوم النص المؤسس، على ضوء هذا الفهم المتباين في التصور، وفي تحديد بعض المفاهيم، يشرع النيفر بتحديد مدارس التفسير المعاصرة وتياراته. ويبدأ بالمدرسة التراثية التي تتوزع على ثلاثة تيارات هي:
¥