أن أولئك العلماء، قد بلغوا مرحلة عالية من العمق والمنهجية والبرمجة العلمية، بيد أن هذا لايعفينا من الاعتراف، بأن هذا التراث، قد اختلط به كم هائل من أيضا من الأساطير، والخرافات، والعثرات، والانحرافات التي افرزها العقل المتخلف، أو المنحرف، أو القصور العلمي، أو محاولات الهدم والتخريب المتعمد .. وذلك كله يحتاج إلى تنقية وتنقيح، وتخليص ما هو علمي يمثل الفكر الإسلامي مما دخل عليه واختلط به، ليكون أساسا من أسس الثقافة والمعرفة، أن عملية افرز هذه تواجه مشكلتين أساسيتين هما:
1 - مشكلة تحديد المرجعية و الضوابط التي يتم على أساسها غربلة التراث وتنقيته، وإثبات الصحيح منه.
2 - مشكلة العقليات التي تدافع عن كل موروث، سواء أكان فعلا اجتماعيا يمارسه المجتمع، أم فكرا تحويه بطون الكتب والمكتبات، بغض النظر عن خطأه، بل ويصطنع بعضهم الأعذار وحجج الدفاع للإبقاء عليه. وهذا الموقف العقلي والنفسي هو ذاته، قد تشكل من خلال إفرازات ذلك التراث الذي يحتاج الى إصلاح، وإعادة نظر، ولذا فإن جزء من تصحيح التراث هو تصحيح العقل المتوقف عن قبول النقد العلمي والتغيير البناء.
ولعل أهم المراجع ذات الحجية المشروعة في إعادة فهم التراث، أو تثبيت الصحيح منه تتحدد بما يلي:
1 - النص [الكلام الذي لا يحتمل إلى معنى واحد] من القرآن والسنة.
2 - عقيدة التوحيد والتنزيه القائمة على أساس الإثبات العقلي.
3 - المسلمات العقلية والعملية.
4 - أصول الإثبات العلمي.
وفيما يتعلق بالتفسير وأصوله النقدية، فإن عملية التفسير الرامية الى فهم النص تقوم على أساس رؤى نقدية ثلاث هي:
1 - الفهم الصحيح للنص لا يتمخض إلا عن التفسير.
2 - يمكن تفسير النص الواحد بعدة أشكال، ولكل نص وجوه متعددة، ولا يمكن أن يحصل فهم النص بالبداهة.
3 - ينبغي تشخيص المعنى الصحيح للنص واختياره، واستبعاد المعاني والتفاسير الخاطئة.
4 - والقول بحاجة النص إلى التفسير يرتكز من ناحية أخرى، على مبدئين نقديين:
الأول: هو أن النص مغاير لمعناه، والمعنى لا يمكن أن يكون بذاته ظاهرا جليا.
و الثاني: هو أن المعنى غير منفصل عن النص، أو أجنبي عليه، فالنص هو أساس المعنى المقصود.
وهذان المبدءان النقديان يحولان دون النظر إلى النص بطريقة سطحية، وكذلك دون التصور الساذج القائل: إن بالإمكان فهم المعنى بدون تفسير (18).
وعودة إلى النيفر وأحكامه المبتسرة، النابعة حسب ما يبدو، من اندفاعاته الحادة نحو الحداثة (ولا ننسى فالرجل من أقطاب ما يسمى باليسار الإسلامي بتونس، وقد كان رئيس مجلة معروفة)، فإنه في الوقت الذي يشد فيه بالإنتاج الغزير في مجال الدراسات القرآنية يعقب قائلاً ((غير أن هذا الإنتاج الغزير بحاجة إلى تقويم لمعرفة مدى حداثة مناهج هذه التفاسير، والدراسات، والى أي حد وقع التجديد في وظيفة المفسر وعلاقته بالنص المؤسس)). وبعد ذلك يختار أربعة نماذج تفسيرية (ثلاثة منها ليست شهيرة وأصحابها من المغمورين)، مؤكدا أن علم التفسير يبدو اليوم وكأنه علم، قد ((احترق)) فيما لو اقتصرنا على هذه النماذج.
ورغم ما حوته هذه التفاسير الأربعة من آثار ((المعاصرة)) في بعض ما يقع تناوله من مسائل ((لكن هذه المعاصرة ـ كما يذهب النيفر ـ تبقى هامشيه؛ إذ هي لا تخص العدة المعرفية القديمة والتصنيفات المعروفة والقضايا الكبرى التي سبق أن قتلت بحثا. ثم ـ وهذا هو الأهم ـ لا نرى من خلال هذا المناخ العلمي والمذهبي أي تساؤلات تجديدية تتصل بالمفسر، وطبيعة الأدوات التي ينبغي أن يؤسس عليها علاقته مع النص القرآني))، ومن ثم يخرج علينا بإبداء ملاحظة ـ يدعوها أولية ـ مفادها: أنه يعسر العثور على الجديد في المستوى المعرفي للتفاسير المعاصرة، طالما لم يحصل جديد في البناء المنهجي الذي يحكم العلاقة بين المفسر والنص.
هذه الأحكام وغيرها يطلقها النيفر جزافا، دون أن يقدم لنا الدليل، ومن دون أن يدعم مقولاته بتوضيح مقنع، فتظل هكذا عائمة تعتمد الإطلاق، فماذا يريد بـ ((التجديد)) في البناء المنهجي؟ وما هي الآلية التي تحكم العلاقة بين المفسر والنص؟ وما هو المنهج المطلوب الذي يولد المعرفة الجديدة؟
¥