و ربما أشرنا هنا إلى مسألة ثانية، بعد القول الأول الذي يخص تجني البعض و تمحلهم في بعض الأبحاث المتصلة بالإعجاز العددي في القرآن، هي مسألة اختلاف الاصطلاحات بين علماء الشريعة و أصحاب الفنون المختلفة كالرياضيات مثلا .. و هو اختلاف يكاد يكون شاسعا .. حد أنهم يتفقون في جوهر الأشياء و مضمونها و لا يعلمون أنهم يتفقون لاختلاف الفهم بينهم .. و هو أمر لمسته في المؤتمر الأول للإعجاز العددي في القرآن الذي نظمته الهيأة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن و السنة .. فمثلا حين نتحدث عن الاحتمالات و حسابها أو نتحدث على فنون الإحصاء أو حتى بعض ما نحتاجه من مفاهيم علم المنطق و علم الجبر، نجد اختلافا في تعريفها بين الشقين، و هو ما يجعل كل طرف يتوهم بعد الطرف الثاني عن الصواب .. و إليكم هذا المثال لتقريب الصورة، قال أحدهم: كان في غابتنا مرج دائري تنتصب في وسطه شجرة وحيدة .. و كان في أصل الشجرة سنجابا يختفي عني وراء هذه الشجرة .. و مرة، و عند خروجي من الغابة إلى الفسحة لاحظت وجه السنجاب، بعينيه الحيتين، يتطلع إلي من خلف الجذع. و بحذر .. و من دون أن أقترب، مشيت على طرف الحقل لكي أنظر إلى هذا الحيوان .. درت حول الشجرة أربع مرات و لكن السنجاب كان يتراجع حول الجذع باتجاه عكسي بحيث أنني كنت أرى وجهه فقط، و هكذا لم أستطع أن أدور حول السنجاب .. فعلق أحدهم: و لكنك قلت أنك درت بالشجرة أربع مرات و السنجاب في أصل الشجرة .. فأنت درت أيضا بالسنجاب .. فهل دار الرجل بالسنجاب فعلا؟ .. الفرق هنا كما هو ظاهر فرق مصطلحات .. و الاختلاف يكمن أساسا في مفهوم كل واحد منهما .. لأنك حين تقول درت حول شيء ما .. يمكن أن يفهم بالتحرك بالنسبة لهذا الشيء، بحيث يمكن رؤيته من جميع الجهات .. و هو فهم الأول .. كما يمكن فهمه بالتحرك في خط مقفل و يوجد الشيء داخله .. و هو فهم المعلق .. و بهذا فاختلاف المصطلحات في كلمة واحدة قد تؤدي إلى الاختلاف في فهم الواقع .. و هو ما أريد أن أنبه إليه .. و للعلم فإن المنطق كفن من فنون الرياضيات يأخذ جزءا كبيرا من علم الأصول أعني أصول الفقه و من العلم بأقسام الحديث و أن الجبر الذي هو أحد فروع الرياضيات أصله في علم الوراثة ... و ربما وجب هنا دعوة أهل العلم في الشريعة إلى محاولة الإلمام بجوانب الفنون العلمية الأخرى، حتى لا يحكم على الآخرين بالظن لثقتي أنهم يعلمون أن الظن أكذب الحديث و أنه لا يغني من الحق شيئا .. كما أهيب بعلماء الرياضيات و المتكلمين في جانب الإعجاز العددي، دراسة ما يتعلق بأبحاثهم من الشريعة، و معه تبسيط ما يقدمونه حتى يفهمه العامي، أو أغلب العامة، و لا يكون كلامهم موجها لأهل الاختصاص في هذه الفنون .. مع الإعداد لمحاورة المختصين و إقناعهم .. و إن كان الأمر فيه من المشقة عليهم ما يعلمونه .. لأن مبادئ الرياضيات غير مبادئ بقية العلوم .. فإننا مع بقية العلوم نحاول نمذجة الكون بربط حركاته و علله بمجموعة من القوانين، فلا نخرج عن المفاهيم الحسية عموما، و الرياضيات إنما تساعدنا على فهم هذه النماذج و هذه القوانين .. و تنقسم مفاهيمها إلى حسية و مجردة و مفردة و عامة و لفظية و غير لفظية و وصفية ... الخ، ثم إن القوانين المتعلقة بهذه المفاهيم التي هي التعميمات تنقسم إلى مسلمات و تعاريف و نظريات .. و المسلمات هي الصيغ التي تقبل بدون برهان لأنه يفترض صحتها و تكون متناسقة و متآلفة و مستقلة كأن نقول في عددين (أ) و (ب) إما أن يتساويا أو يكون (أ) أكبر قطعا من (ب) أو يكون (ب) أكبر قطعا من (أ) .. و ليس بناؤه على الظن هنا، حتى لا يقال أن بناء الرياضيات هو بناء ظني و لكنه التسليم بيقين ..
و لعلي هنا أنبه إلى أمر .. هو أن هذا القرآن هو كتاب هداية و علم و حكمة .. فيه خبر ما قبلنا و ما بعدنا و حكم ما بيننا ..
فإذا سئلت إن كان العلم يسبق القرآن؟ أجبت: كلا فالحقيقة العلمية اليقينية هي التي تتبع القرآن؟
و ربما واجهني الناس، هنا .. إذن .. و ما دام القرآن قد سبق العلم .. فلماذا لا نعكف على قراءة القرآن و دراسته فنستخرج منه ما فيه من الدرر؟
و أجيبهم و لست أنا من يجيبهم .. و لكني أجيب بما أجابنا الله به في سورة محمد:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)؟
¥