قال البقاعي: "ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً، فهو لكونه داخلاً على النفي نفي له فصار إثباتاً، فكان كأنه قيل: هل يجددون التدبر تجديداً مستمراً لترق قلوبهم به وتنير بصائرهم له، فيكفوا عن الإفساد والتقطيع " (84).

8 - أن التدبر دافع لموهم التعارض بين الآيات القرآنية:

بدليل قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82)، قال الزمخشري: "فإن قلت: أليس نحو قوله: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) (الأعراف:107)، (كَأَنَّهَا جَانٌّ) (النمل: من الآية10)، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:92)، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (الرحمن:39) من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين" (85).

وقال ابن كثيرفي هذا المعنى: " (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي: اضطرابا وتضادًّا كثيرًا. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله. كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران: من الآية7) أي: محكمه ومتشابهه حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين" (86).

وقال الآلوسي: " وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفاً ليس من الاختلاف عند المتدبرين " (87).

9 - أن الأمر بالتدبر يدل على أن القرآن معلوم المعنى:

قال الرازي: " دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والإمام المعصوم، لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر، ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته، ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم، كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك" (88).

10 - أن الأمر بالتدبر غير مقتصر على المسلمين، بل يشمل الكفار، وقد قال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون:68).

قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: أفلم يتدبر هؤلاء المشركون تنزيل الله وكلامه، فيعلموا ما فيه من العبر، ويعرفوا حجج الله التي احتج بها عليه فيه؟ " (89).

وقال الشوكاني: " قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة: الأوّل: عدم التدبر في القرآن، فإنهم لو تدّبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه" (90).

وقال السعدي: " (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي أفلا يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه أي فإنهم لو تدبروه لأوجب لهم الإيمان ولمنعهم من الكفر ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه ودل هذا على أن تدبر القرآن يدعو إلى كل خير ويعصم من كل شر" (91).

11 - قال الشوكاني: " وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر، والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر" (92).

والله أعلم،،،

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

ــــــــ

(1) مذكرة أصول الفقه: (12). ومثال الحقيقة الشرعية: تخصيص الهدي المذكور في قوله تعالى: (هدياً بالغ الكعبة): بالنَّعم مع كونه أخص من المعنى اللغوي الشامل لكل ما يُهدى للكعبة، وتخصيص الإيمان والكفر بالمعنى المعروف شرعاً.

(2) الإحكام: (1/ 27).

(3) زاد المسير: (2/ 72).

(4) معجم مقاييس اللغة: (2/ 266)، وانظر: العين: (2/ 117).

(5) التعريفات: (17).

(6) العين للخيل: (2/ 117)، والقاموس المحيط: (1/ 403).

(7) انظر: الصحاح في اللغة: (1/ 197).

(8) جمعت في ذلك ما وجدتُ من كلام المفسرين حتى يكون بين يدينا ـ مع كثرة النقل ـ بقصد الخروج بالنتيجة المذكورة في البحث.

(9) المحرر الوجيز: (2/ 161).

(10) تفسير البغوي: (2/ 254).

(11) الكشاف: (1/ 438).

(12) تفسير الرازي: (5/ 300).

(13) تفسير اللباب: (5/ 269).

(14) فتح القدير: (2/ 180).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015