ومن ناحية خامسة، فإن الآيات التى سبقت هذه القصة فى سورة الكهف، قد ذكرت أن الإنسان أكثر شئ جدلاً، يثق فى آرائه، ولا يعتد بغيره، وحين تأتيه الرسل بالآيات مبشرين ومنذرين يلجأ إلى الجدال بالباطل، ليدحض به الحق معرضاً عنه استهزاء وسخرية، ثقة فيما يتعاطى من الجدل والمراء، ناسياً أن لكل علم نهاية، وأن ذوى اللجاج من هؤلاء لا يبلغون من العلم شيئاً مهما ادعوه ([3])، فناسب ما ذكره القرآن الكريم فى هذه الآيات أن يذكر من بعده قصة موسى مع العبد الصالح، لأنها قصة تدل على أن نبى الله المختار موسى، وكليمه المجتبى لم يصل فى العلم إلى مبلغ ما تمكن به سواه من البصر والدراية والنفاذ.

فلكل هذه الأسباب وغيرها من مرادات الحكيم الخبير ذكرت هذه القصة فى سورة الكهف دون غيرها من سور القرآن الكريم.

ولقد عرضها القرآن الكريم - كتاب العربية الأكبر - عرضاً فريداً يعجز الأدباء والبلغاء عن الإتيان بمثله. فقد صورت ببراعة لا مثيل لها فكرة الرحلة فى طلب العلم والاجتهاد فى كشف الحقائق والأسرار، وكانت فى هذا المجال من أروع القصص الذى يمكن تسميته (بقصص الموازنة بين ما نعلم وما لا نعلم، وما ندرك من الأسباب الظاهرة، وما يغيب عنا من الأسباب الخفية).

إنها قصة رحلة علمية تنبئ بسبق القرآن الكريم إلى ما يسمى فى عصرنا الحديث بأدب الرحلات .. وهى رحلة علمية يخلص فيها - كما نرى - التابع والمتبوع الطاعة لله رب العالمين، ولا يبتغى فيها الأستاذ عن تلميذه سوى الأجر من الله.

إنها قصة تعلمنا - من بين ما تعلم - كيف نتحمل المشقة فى تحصيل العلم، وكيف نذلل كل الصعوبات التى تعترضنا فى التحصيل، وكيف يستدر طالب العلم السماح من أستاذه ليدخل فى تبعيته، ويلح فى ذلك حتى يأذن له بحسن الصحبة. وكيف يتجمل طالب العلم بالتواضع وحسن الاستجابة والإنصات لأستاذه، والاسترشاد بنصائحه، والتزام أوامره، والمسارعة بالاعتذار حين يشعر أنه قصر فيما يجب عليه نحوه.

والقصة تعلمنا - من بين ما تعلم - كيف نتحمل المشقة فى تحصيل العلم، وكيف نذلل كل الصعوبات التى تعترضنا فى التحصيل، وكيف يستدر طالب العلم السماح من أستاذه ليدخل فى تبعيته، ويلح فى ذلك حتى يأذن له بحسن الصحبة. وكيف يتجمل طالب العلم بالتواضع وحسن الاستجابة والإنصات لأستاذه، والاسترشاد بنصائحه، والتزام أوامره، والمسارعة بالاعتذار حين يشعر أنه قصر فيما يجب عليه نحوه.

والقصة تعلمنا كذلك كيف يبصر الأستاذ مريديه بآداب التعلم، وكيف يرد الصواب فى كل خطأ يقع فيه التلميذ، وكيف لا يتركه جاهلاً بمسائل الدرس، وقضايا العلم، وكيف ينسب العلم والفضل إلى الله فى كل ما يشرحه من دروس.

لقد أشارت القصة بتصويرها المعجز وإيماءاتها النفاذة إلى كل هذه الآداب وكل تلك الأصول فى التربية والتعليم والتهذيب.

ومما لا شك فيه: أن القصة - كما ترى - تمتاز بالإيجاز والشمول، والوضوح والصفاء .. كما تمتاز بجاذبية العرض، وقوة النظم وإعجاز التصوير ودقة الاختيار للألفاظ والتعبيرات الموحية المؤثرة.

ويكفينا - فى هذا المجال - أن نشير - مثلاً - إلى روعة التعبير بلفظ (الفتى) عن (يوشع بن نون) خادم سيدنا موسى وعبده الذى رافقه فى هذه الرحلة الشاقة الطويلة ... وذلك أن لفظ الخادم والعبد والأمة يرفضه الخلق القرآنى، وينبو عنه الذوق الإسلامى، بدليل قول سيدنا محمد e: ( لا يقل أحدكم فتاى وفتاتى، وليقل: عبدى وأمتى).

فالقرآن الكريم بهذا التعبير قد أضفى على (يوشع) أجمل لباس يتحلى به، وهو لباس الفتوة والشباب .. موطن الإعزاز فى الإنسان، وأنضر حلقات العمر .. وهو متلائم تماماً - ولو كان شيخاً وقتئذ - مع ما عهد إليه فى الرحلة من عمل، إذ كانت له مهمة لا ينهض بأعبائها إلا من كان فى قوة الفتى وعنفوان الشباب .. وهو بهذه الصفة قد استطاع أن يواصل السير مع رسول من أولى العزم أخذ على نفسه - ومعه فتاه - أن يظل سائراً حتى يلتقى بأستاذه (الخضر)، ولو أمضى العمر كله فى سبيل ذلك، فما أروع التعبير بالفتى فى هذه القصة المصورة لرحلة علمية شاقة طويلة ..

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015