وقتل الخضر للغلام بغير نفس، يقابله فى تاريخ موسى قتله للمصرى حين دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، فوكزه موسى، فقضى عليه. وكان هذا قبل أن يوحى إليه. وبناء الخضر للجدار بدون أجر ليحفظ مال اليتيمين، يقابله: سقيه لغنم بنتى شعيب بدون أجر، بل إن شعيبا أرسل إحدى بنتيه تدعو موسى ليجزيه أجر ما سقى لهما. فالأحداث الثلاثة التى نراها فى سورة الكهف نرى ما يقابلها، فى حياة موسى، وقد جاءت بالترتيب نفسه فى سورة القصص، حيث قال سبحانه: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه .... إلخ) القصص: 7 وقال: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد منها رجلين يقتتلان .. إلخ) القصص: 15، وقال: (ولما ورد ماء مدين ... إلخ) القصص: 23، 24، فترتيب الأحداث هنا كترتيب الأحداث هناك.
وعلى كل حال فإن هما يلفت النظر ويسترعى الانتباه: أن القرآن الكريم - فى قصصه المعجز - قد ركز على سيدنا موسى - عليه السلام - تركيزاً قوياً، حتى إن المواضع التى ذكر فيها اسمه قد بلغت مائة وستة وثلاثين موضعاً، توزعت على أربع وثلاثين سورة. ولم يظفر اسم نبى فى القرآن الكريم بمثل ذلك النصيب الأكبر الذى ظفر به سيدنا موسى عليه السلام.
ويعد النص السابق الذى اخترناه من سورة الكهف إحدى حلقات هذه القصة الطويلة التى أوردها القرآن الكريم عن هذا الرسول الكريم فهى تمثل قصة قصيرة من قصص هذه القصة الطويلة، وتتكون - كما رأينا - من ثلاث وعشرين آية لم ترد فى غير سورة الكهف.
ولقد جاء ذكرها فى هذه السورة - بالذات - صورة رائعة من صور الجمال ومعلماً بارزاً من معالم الإعجاز القرآنى، ومظهراً من مظاهر العناية الإلهية الفائقة بوضع القصة فى المكان الذى يناسبها ويليق بها من سور القرآن الكريم.
فالقصة - من ناحية - تحتوى على "جملة من الحقائق فى كهوف، ولكن الكهوف التى تستر الحقيقة تأتى أولاً، ثم بعد ذلك تأتى الحقائق، ومن هنا، فإن سيدنا موسى - عليه السلام - عندما يرى الكهوف، ولا يرى الحقائق التى تسترها لا يستطيع الصبر على ذلك ... العبد الصالح حكم بعلمه الذى علمه الله، وموسى عليه السلام حكم بما يعلمه، ولذلك اصطدم الحكمان، فالعبد الصالح كان يقوم بعمل خير (حقيقة مستورة فى كهف ظاهره الشر)، وموسى كان يرى فى هذه الأعمال ما هو ظاهر فقط، ويحكم به، لأنه لا يعلم بواطن الأمور" ([1]).
والقصة - من ناحية أخرى - "تمثل الحكمة الكبرى التى لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار، ثم تبقى مغيبة فى علم الله وراء الأستار، فهى - إذن - ترتبط بقصة أصحاب الكهف والرقيم فى ترك الغيب لله الذى يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذى يقصر عنه البشر الواقفون وراء الأستار .. لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار" ([2]).
والقصة - من ناحية ثالثة - تشير إلى العلم الذى يعمق الإيمان بالله علام الغيوب ... العلم اللدنى الذى لا ينكشف إلا لمن آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً.
ومن ناحية رابعة، فإن سورة الكهف قد احتوت - من بين ما احتوت - على قصتى أصحاب الكهف، وذى القرنين، وهما قصتان نزلتا حينما أوعز اليهود للمشركين أن يسألوا النبى e عنهما، وعن الروح، وقالوا لهم: (إن أخبركم بهن فهو رسول فاتبعوه، وإلا كان رجلاً متقولاً تصنعون به ما بدا لكم). فلما أنزل الله سورة الكهف مشتملة على قصتى أصحاب الكهف وذى القرنين، جعلها مشتملة - أيضاً - على قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح لينبه المشتركين واليهود معاً، وكذلك المسلمين، على أن النبى e لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأنباء، فها هو موسى - مثلاً - الذى كان يعترف به اليهود فى المدينة ولا يعترفون بمحمد رسولاً، يلتقى مع الخضر عليه السلام، ويخفى عليه تفسير الأحداث الثلاثة التى وقعت من الخضر، بل إن اليهود أنفسهم لم يعرفوا هذه القصة إلا عن طريق القرآن الكريم.
¥