ولننظر - أيضاً - إلى قوله تعالى: (آتِنَا غَدَاءَنَا)، وكيف لم يقل: (آتنى غذائى)، لأن الطعام مشترك بين موسى وفتاه، لا يختص به السيد تفضلاً، ثم يلقى نفايته وفضلته إلى الخادم، إذ ليس هذا من خلق الهداة ([4]).

ولننظر - كذلك - إلى قوله تعالى: (أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ)، وكيف لم يكن اللجوء إلى السهل من الأرض، وكان ذلك فى الإمكان حتى لا يتجشم موسى وفتاه المتاعب، لكنها رحلة العلم التى يركب فيها الإنسان أشق المراكب، ويصعد إليها أوعر الصخور، لأنه يقدر فى ذلك أن ثواب العلم على قدر المشقة.

ولله در الشاعر إذ يقول:

سيدركها متى شاب الغراب!

\

ومن طلب العلوم بغير كدِّ

وما أروع التصوير القرآنى فى قوله تعالى - على لسان موسى عليه السلام - (هل أتبعك على أن تعلمنى مما علمت رشدا)؟ فسيدنا موسى شخصية فى القصة تمتاز بالأدب البالغ فى التعبير، فسيدنا موسى - كما نرى - لم يطلب التملذة مع سيدنا الخضر بأسلوب الطلب العادى، وإنما بأسلوب إنشائى طريقه الاستفهام الموحى بعدم الإلزام للأستاذ أو الإلحاح عليه فى قبول التلمذة على يديه.

ثم يبلغ الأدب بموسى: أنه لا يجعل التماسه العلم من الخضر تلمذة فحسب، وإنما تبعية مطلقة وامتثال لأستاذه مقابل بكلمة منه. على أن سيدنا موسى لا يطلب مجرد علم - فلديه من العلم الكثير - وإنما يطلب نوعاً خاصاً من العلم، ومن هنا لم يقل للخضر: (على أن تعلمنى مطلقاً) أو (على أن تعلمنى علماً)، وإنما قال له: (على أن تعلمنى مما علمت) فلفظ (من) للتبعيض، أى على أن تعلمنى بعضاً من الذى تعلمته، وكأنه يطلب نوعاً مما نسميه الآن بالتخصص أو الدراسات العليا. (عن مقال للدكتور/ عبد الحليم حفنى فى مجلة منبر الإسلام عدد المحرم 1400هـ، ص 30).

ونلحظ فى هذا التعبير القرآنى المعجز أيضاً: أن موسى يطلب العلم لغاية نبيلة وهدف محدد، وهو (الرشد) فليس علمه لمجرد الترف النفسى، أو للمكاثرة به، أو للعلم لذاته، وإنما ليصل به إلى غاية نبيلة محدودة وهى الرشاد الدينى. ويسترعى انتباهنا أن الحق سبحانه قال: (فوجدا عبداً من عبادنا ... الخ) فأتى بفاء العطف المرتبة لوقوع الأحداث، والدالة على نتيجة بحثهم، على حين أنه لم يأت بها فى قوله: (قال له موسى) فلم يقل: (فقال له موسى) فأفاد ذلك أن زمن رؤية موسى للخضر هو زمن قوله: (هل أتبعك) فسرعة حبه للعلم، واستعجاله للتعلم لم يتركا لفاء الترتيب والعقيب وقتاً، فموسى طلب العلم والتبعية للخضر فى نفس الوقت الذى رأته فيه عيناه!!

وما أروع التصوير القرآنى فى قوله تعالى - على لسان العبد الصالح - (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)، فإنه تعبير كان الهدف منه تنبيه سيدنا موسى إلى حقيقة الفارق بين العلم اللدنى والعلم البشرى، فالعلم اللدنى ثقيل، ولن يصبر عليه موسى، ولن يصبر على اتباع الخضر بالتالى، ولما كان هذا الحكم يحوى شيئاً من الغرابة، أو عدم الاقتناع به؛ فإن الخضر لجأ إلى تحليل هذا الحكم وتعليله بقوله لموسى: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)؟!

ونظراً لأن الخضر كان على دراية تامة بثقل العلم اللدنى على موسى، فإنه قال له: (فإن اتبعتنى فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا). فنلحظ أن نغمة الشك التى يوحيها لفظ (إن) ليست منصبة على الاتباع ذاته، وإنما نبعت من دقة الخضر فى التعبير عن شئ يعلمه ويتوقعه، فهو يتوقع أن موسى لن يستطيع السكوت على ما يصدر عنه من أمور ظاهرها منكر، وإن كانت فى الحقيقة التى لا يدركها موسى خيراً معروفاً يثيب الله عليه.

هذا ويسترعى انتباهنا أن الحق سبحانه لم يصرح باسم الخضر، وإنما ذكره بصفاته الثلاث (عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلماه من لدنا علما) لأن العبودية هى أشرف المقامات، بدليل وصف رسولنا بها فى حديث الإسراء والمعراج، ولأن الرحمة هى الأساس الذى نبعت منه أفعال الخضر، فخرقه للسفينة رحمه بأصحابها المساكين، وقتل الصبى رحمة بوالديه، وبناء الجدار رحمة بالغلامين اليتيمين. وكذلك العلم للدنى هو العلم الذى تميز به الخضر، كذلك يسترعى انتباهنا فى إعجاز التصوير القرآنى لهذه القصة أن سيدنا موسى قد وصف خرق السفينة بأنه شئ إمر، أى عجيب، ووصف قتل الغلام بأنه شئ نكر، أى تنكره العقول والشرائع،

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015