يرى النورسي " أن القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخل باتزان أي كان منها. ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها .. وجمع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.

فهذه " المحافظة والموازنة والجمع" خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضيين إلى عالم الغيب، بل كل قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه. وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.

نعم! إن الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. إذ تلزم نظرا كليا كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم – ولو يتلقى الدرس منه – لا يرى تماما بعقله الجزئي المحدود إلا طرفا أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو بالتفريط".

ويقول النورسي في مكان آخر: " إن من يتأمل في كتب حكماء الإشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون أن يزنوها بميزان السنة المطهرة يصدق حكمنا هذا دون تردد. إذا فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلا ن النقص يلازم آثارهم، لأنه ليست قرآنا".

- مع سيد قطب:

يرى سيد قطب أن للمنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي خصائص تميزه عن أي منهج آخر، وقد ذكر منها الخصائص التالية:

أولا: إنه يعرض " الحقيقة" كما هي في عالم الواقع، في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها. وهو مع هذا الشمول لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.

ثانيا: إنه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات " العلمية" والتأملات " الفلسفية"، والومضات " الفنية" جميعا، فهو لا يفرد كل جانب من جوانب "الكل" الجميل المتناسق بحديث مستقل، كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب، وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة، وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى، في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده.

ثالثا: إنه مع تماسك جوانب الحقيقة وتناسقه يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها – في الكل المتناسق- مساحته، التي تساوي وزنه في ميزان الله – وهو الميزان- ومن ثم تبدو " حقيقة الألوهية" وخصائصها، وقضية " الألوهية والعبودية" بارزة مسيطرة محيطة شاملة، حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة، وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب بما فيه القدر والدار الآخرة مساحة بارزة، ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة أنصبة متناسقة، تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها، في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق.

رابعا: إنه يتميز بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية – مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم – وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعا وروعة وجمالا، لا يتسامى إليه المنهج البشري في العرض، ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة وتحديد حاسم، ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة.

ولا يمكن أن نصف نحن، في الأسلوب البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن.".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015