و الثانية: أنه كان معظم علم التفسير، لكونه أصولا لفهم القرآن، وإذ جعل من علم الفروع لم يبالغ في تنقيحه حتى يصير علم التأويل كالمعيار والميزان، مثل علم النحو والعروض، فما بلغ مبلغ الفن المنقح، بل كان قصاراه أن يكون أصولا خاصة مثل قوانين الأمم المختلفة.

فيقال إن أبا حنيفة – رحمه الله – جرى على هذه الأصول. والشافعي – رحمه الله – على تلك.

والثالثة: أن القرآن ليس مقصورا على الفروع، بل معظمه يتعلق بالعقائد وبواطن الأخلاق.

وإذ جعل من أصول الفقه صار مقصورا عليه. ومن هذه الجهة وقع خلل فاحش في بناء العلم الذي يهدي إلى فهم القرآن.".

وهكذا نرى أن تدارك الخلل في بناء العلوم الشرعية ينطلق من إعادة النظر في بناء علم أصول الفقه بحيث يكون " علم أصول التأويل" ومن أجل ذلك وضع الفراهي مشروع كتابه " التكميل في أصول التأويل" ثم وضع كتابه "القائد إلى عيون العقائد " لتدارك قصور علم الكلام، كما وضع كتبا لتدارك تقصير علوم اللسان منها: " مفردات القرآن" و " إمعان النظر في أقسام القرآن" و " أساليب القرآن" و " جمهرة البلاغة" وأتبع ذلك بكتب متممة منها: " دلائل النظام" و " إمعان في أقسام القرآن" و " فاتحة نظام القرآن" و " تفسير الفرقان بالفرقان" وهي مقدمة تفسيره الذي طبع منه عدد من السور القرآنية، كما وضع مذكرات خطية بين يدي تفسيره، وأشار بها إلى ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار والاهتمام عند تأليف هذا التفسير. وتعتبر جهود الفراهي في هذه العلوم محاولة جادة في إعادة بنائها على أسس راسخة لتكون منطلقا إلى مستقبل أفضل لهذه العلوم.

- هيمنة القرآن:

لقد وصف الله القرآن بأنه المهيمن على الكتب الإلهية السابقة، وذلك في قوله تعالى:] هو الذي أنزل عليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [بمعنى أن ما جاء في القرآن أولى بالاتباع لأنه الصورة الأخيرة للوحي الإلهي والناسخ لما خالفه من الشرائع السابقة التي جاءت لفترات زمنية محدودة ولأقوام معينين، أما الصورة الأخيرة فهي الصورة المتوافقة مع الفطرة البشرية والمتناسبة مع عموم الرسالة وامتداد الزمان والمكان.

وإذا كان لا يقبل ما خالف القرآن من الرسالات السابقة لأن القرآن مهيمنا عليها، فكذلك ينبغي أن تكون للقرآن الهيمنة في مصادر الشريعة الإسلامية وفي العلوم التي نشأت في الأصل لخدمته وتوضيحه وبيانه، ولا يجوز أبدا أن تعكس القضية، فيصبح القرآن وسيلة لتوضيح تلك العلوم، كما لا يجوز أن تكون تلك العلوم هي المهيمنة على النص القرآني، ولو كانت الحجة أن هذه العلوم مستمدة في الأصل من القرآن. ذلك أن دراسة هذه العلوم بمعزل عن القرآن أوجد خللا في تصور بعض المفهومات والقيم الإسلامية، كما أوجد خللا في العلاقات بين مفرداتها. وبذلك تضخمت بعض القيم على حساب البعض الآخر، مما أفقد التصور الإسلامي توازنه وتناسبه، وانعكس كل ذلك في سلوك المسلم الذي ما زال يعاني من أثر ذلك.

إن دراسة قيم الإسلام ومفهوماته، ومفرداته من خلال النص القرآن وترتيب آياته وسوره لا يكشف عن سر الحسن وسحر البيان – وهو أمر مطلوب – فحسب وإنما يتعدى ذلك إلى دلالات جمة، فكم من المعاني الدقيقة والحكم الغامضة مودعة فيه. والواجب على المتأمل في القرآن أن يتدبره كلمة كلمة ويؤمن بأن تحت كل منها حكما وفي نظمها سرا، وإذن يوشك أن يتجلى عليه بعض المكنون حسب استعداده".

ولقد أدرك أهمية هذه الحقيقة – حقيقة الدراسة للإسلام وقيمه ومفهوماته من خلال القرآن وما يترتب على ذلك من تصور صحيح ومتوازن بعيد عن الإفراط والتفريط بعض علماء النهضة المعاصرين ونرى أنموذجا لهم في ما كتبه العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي، وما كتبه بديع الزمان سعيد النورسي، وما كتبه سيد قطب في معظم مؤلفاته وبخاصة " مقومات التصور الإسلامي" و " في ظلال القرآن"، وسنقتطف فيما يلي فقرات مما كتبه هؤلاء الأعلام عن هذه الحقيقة:

- مع بديع الزمان النورسي:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015