وأما علم البيان فحاله كحال النحو لا يتصدى لكلام يتفجر من صدوع القلب الحي، وما أبعده مما يتصبب من سماء الوحي، فترى صاحب الوحي – بل كل داع إلى الحق- ينفث ما في قلبه كيف ما دعته الحالات، فطورا يأتي بالمجاز، وطورا بالحقيقة، ولا يراعي إلا فهم المخاطبين والعادة الجارية في لسانه. فيفهمه المخاطب، ولكن الذي يجمد على علم البيان فإنه يدب كالنمل، ويخبط كالأعمى، ومن رأى الزبور وكتب الأنبياء السابقة علم أن المجاز له مجال وسيع في الوحي".

- وقد وضح الفراهي كثيرا مما أراده في علم البيان في كتاب الذي خصصه لذلك وهو " جمهرة البلاغة"-.

وأما الأصول: فلا نجحد فضل من أسس هذا الفن، فإنهم لم يأخذوه من اليونان ولا من الهند، ولا من غيرهما، بل دعت الحاجة إلى وضع أصول لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فهم قدوة في هذا الفن الشريف، ولكن الخلف لم يهتدوا إلى تهذيبه وإصلاحه، فبقي هذا الفن واهي القوى ضعيف الأركان، ولما يبلغ مبلغا يستحق به اسم الفن، فترى فيه اختلافا كثيرا ينجر إلى اختلاف الأحكام، وليس الأمر كذلك في النحو والمنطق وغيرهما من الفنون.

وأما البلاغة فاستخرجوها من أشعار العرب، والأشعار لضيق مجالها كانت مقتصرة على جودة السبك، ورشاقة اللفظ والبديع، أما حسن الاستدلال ورباط المعاني وضرب الأمثال، والاعتبار من القصص، وجر الكلام ثم العودة إلى عموده، والوعد والزجر والتأكيد بشدة يقين المتكلم، والإعراض إعراض الترفع، والحسرة حسرة المعلم الناصح، وغير ذلك مما تجده في خطب البلغاء ووحي الأنبياء، فلم يذكروه في علم البلاغة".

- لسان القرآن:

" الكتب المتعلقة بلسان القرآن من حيث دلالته على معانيه ثلاثة:

كتاب " المفردات" و كتاب " الأساليب" و كتاب " أصول التأويل".

ففي كتاب المفردات يبحث عن الألفاظ المفردة، ويكشف عن معانيها الخاصة، بحيث تتضح لها الحدود واللوازم، وما يتصل بها وما يفترق عنها، وما يشابهها وما يضادها فيحيط العلم بدلالة الألفاظ المفردة.

وفي كتاب الأساليب يبحث عن دلالة التراكيب المختلفة الوجوه التي تدل عليها الأساليب المتنوعة، فيحيط العلم بما يدل عليه الكلام من المعاني حتى يحفظ عما لا دلالة عليه.

وفي كتاب أصول التأويل يبين ما يؤخذ من المعاني المختلفة وما لا يؤخذ، وما يمكن بينها الجمع.

ثم بعد ذلك يستوي السبيل إلى فهم رباط معاني القرآن من القرآن".

- علم الحديث والقرآن:

ويرى الفراهي أن السبيل السوي إنما يكون بتعلم الهدي من القرآن، وأن تبني عليه دينك، ثم بعد ذلك تنظر في الأحاديث: فإن وجدت ما كان شاردا عن القرآن – حسب بادي النظر أولته إلى كلام الله، فإن تطابقا قرت عيناك، وإن أعياك توقف في أمر الحديث واعمل بالقرآن وقد أمرنا أولا بإطاعة الله ثم بإطاعة رسوله، ولا شك أن الأمرين واحد، فإن لم يرد الله أن نقدم كلامه على ما روي عن رسوله فماذا إذن أراد بهذا الحكم.

أصول التأويل:

قد جعل العلماء طرفا من أصول التأويل جزءا لأصول الفقه، أي فروع الشرائع، فلكونه جزءا صار غير مستقل، ولم يعط من الاهتمام والإتمام ما يعطي لفن مستقل. ثم لكونه مستعملا للفرو ع، لم يعط من التيقظ والاحتياط ما يعطي لأصول الدين، ومعلوم أن الاختلاف في فروع المسائل هين فهان أمره.

وكذلك لكونه مشتركا بين الكتاب والسنة لم يختص بما هو أهله؛ إذ السنة معظم العناية فيها نقد الرواة، فلا يتعمق في متونها من قبل خواص ألفاظها وتراكيبها – إذ الروايات أكثرها بالمعنى.

وأما القرآن فيعض عليه بالنواجذ فيحافظ على حروفه وحركاته، ويعتمد على ما يستنبط من نظمه وإشاراته، وتنفى الاحتمالات الضعيفة عن تأويل آياته، ويرد ما اشتبه منه إلى محكماته، فلا يغتفر فيه الأخذ بالهوينى، لا في تأويله ولا في تنزيله.

فلو جعل هذا الفن من علم التفسير لعظم محله في الدين، ولأفرغ له الجهد التام، وأخذ فيه بالاحتياط من الآراء الضعيفة، وبعد ذلك يكون استعماله في الحديث وسائر الكلام على التبع والتطفل.

وبالجملة فإدخال أصول التأويل في أصول الفقه – بمعنى علم المسائل الفرعية – حط علم التأويل عن محله ومكانته بثلاث مراتب:

الأولى: كان حريا بالبحث المستقل فصار له شركاء، فغدا مغمورا معها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015