ولما كان القرآن مصدر هذه العلوم، كان لا بد لأصول تأويله أن تكون شاملة لكل هذه العلوم، ولكن ما حدث هو أن جعل علم التأويل مقصورا على الفقه وهو ما عرف بعلم " أصول الفقه" ومن ثم أصبح علم الأخلاق وعلم الكلام بعيدين عنه فلا نجده مستعملا فيهما.

أما علم الأخلاق فاتسع بأهله حتى تشبثوا بكل ما راقهم وأعجبهم، فمنهم من بناه على الحكمة العملية التي تلقوها من الفلاسفة، ومنهم من اعتمد على تجاربه، ومنهم من بناه على الروايات الضعيفة، وربما أخذوا من القرآن حسب تأويلاتهم الركيكة، وذلك لظنهم بأنه لا حاجة إلى صحة الاستدلال في الترغيب والترهيب، ومدح الحسن، وذم القبيح.

ومنهم طائفة من المتصوفة تكلموا في العقائد يؤولون القرآن إلى ظنونهم لجهلهم بالعربية وبحقيقة هذا الدين، ويزعمون أنهم أعرف بالقرآن وأسراره، وتجد أمثلة ذلك في كلام ابن عربي.

وأما علم الكلام فأصحابه لاشتغالهم بالملاحدة قل اعتمادهم على النقل، وكان معظم احتجاجهم بما تجنح إليه العقول لكي يسلم لهم الخصم، وربما يؤولون القرآن إلى غير مراده فرارا من اعتراضات المعاند، إذ لم يهتدوا لصحيح التأويل وتوفيق المعقول بالمنقول فجعلوا للتأويل – لا نقول أبوابا بل ثلما – يخرجون منه حين لا يمكنهم الدفاع على وجه مستقيم.

حتى قال بعضهم – كالرازي عفا الله عنه -: إنه لا اعتماد على ظاهر القرآن لعله يكون من المتشابهات.

فجعل القرآن كله ملتبسا، ولم يكن ذلك إلا لعدم تأسيس أصول التأويل العامة التي يعتمد عليها في كل ما يستنبط من القرآن سواء كان من فروع الشرائع أو الأخلاق والعقائد.

فإن جعلت القرآن أصلا لتمام علم الدين – كما هو في الحقيقة – صار من الواجب أن يؤسس أصولا للتأويل بحيث تكون علما عاما لكل ما يؤخذ من القرآن".

- القرآن وعلوم اللسان:

وكما كانت للفراهي نظراته النقدية في بناء العلوم الشرعية، كذلك كانت له نظراته في علوم اللسان، وفي ذلك يقول: "كما أن الله تعالى وعد بحفظ متن القرآن حيث قال:] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [فكذلك وعد ببيانه حيث قال:] ثم إن علينا بيانه [ومن بعض إنجاز وعده حفظ اللسان العربي من الاندراس والمحو وجعله حيا باقيا. وكذلك حفظ الاصطلاحات الشرعية كـ " الصلاة" و " الزكاة" و " الجهاد" و"الصوم" و " الحج" و " المسجد الحرام" و " الصفا" و " المروة" و " مناسك الحج" وأمثالها، وما يتعلق بها من الأعمال المتواترة المأثورة من السلف إلى الخلف والاختلاف في اليسير فيها لا اعتبار له.

فإذا نظرت إلى ألفاظ مصطلحة في الشرع، ولا تجد حدها وتصويرها في القرآن، فلا تجمد على أخبار الآحاد فتسقط في الريب. بل اقنع بالقدر الذي اجتمعت عليه الأمة، ولا تؤاخذ إخوانك فيما ليس فيه نص صريح، ولا عمل مأثور، من غير خلاف، فهذا هو السبيل الوسيع والمعنى الواضح من القرآن في اصطلاحاته الشرعية.

فأما في سائر الألفاظ وأساليب حقيقتها ومجازها فالأصل فيه كلام العرب قديم، والقرآن نفسه.

وأما كتب اللغة فمقصرة، فإنها كثيرة ما لا تأتي بحد تام ولا تميز بين العربي القح والمولد ولا تهديك إلى جرثومة المعنى، فلا يدري ما الأصل وما الفرع؟ وما الحقيقة والمجاز؟

فمن لم يتمرس بكلام العرب واقتصر على كتب اللغة، ربما لم يهتد لفهم بعض البعض المعاني من كتاب الله.

وأما باقي علوم اللسان كالنحو والمنطق والأصول والبيان والبلاغة والقافية، فالكتب المدونة فيها – مع كثرة فوائدها – أشد تقصيرا من كتب اللغة لفهم القرآن.

أما النحو فيحتاج إلى زيادات، بل ليس من شأنه إلا تأسيس أصول كلام وسيط بين السقط والرفيع، فلا ينبغي للمفسر أن يبالغ في تطبيق كلام الله على أصول النحو. فيرممه ويؤوله فيظن الظان أنه جائر عن قصد السبيل. بل عليه أن يأتي بشهادة من أشعار العرب ليعلم الجاحد انه لهو الأسلوب الأعلى "- وقد ذكر الفراهي بعضا من هذه الإضافات في كتابه " أساليب القرآن ".

وأما المنطق فمداره التدقيق في استعمال ألفاظ التحليل والنفي والاستثناء وسوق الدليل.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015