خامسا: أن اختلاف الأسلوب بين مخاطبة المؤمنين والحديث في شأنهم، وبين مخاطبة الكافرين يبين مدى تعظيم القرآن للمؤمن فهو يلاطفه ويلين له الخطاب، ويقدم الكلام بما يشعر المؤمن بحب الله ورحمته ولطفه، حتى إنه ليطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلطف في خطابه للمؤمنين، وأن يلين لهم، وهو من هو عليه الصلاة والسلام عند ربه. كذلك نجد الغلظة في خطاب الكافرين، والإخبار عنهم ونجد إنزال القرآن لهم منزلة حقيرة ودرجة وضيعة، حتى يترك خطابهم إلى خطاب غيرهم ويسقط منزلتهم في العبارة فيصرف الكلام عنهم، ويوجهه إلى من هو أولى به، وأسمع له.

سادسا: أن هناك مقامات يكثر فيها التعبير بالمضارع عن الماضي، مثل الإخبار عن الأمم السابقة وقصصها وقصص أنبيائها، وفي مقامات الحديث عن الآيات الكونية، وما يحيط بالإنسان مما هو دليل على عظمة الله وقدرته. كما أن هناك مقامات كثر فيها مجيء الماضي معدولا إليه عن المضارع، وتلك هي مقامات الحديث عن المعاد والبعث والنشور وما يتبعه من أهوال في يوم القيامة. فالمضارع وإن كان يتحدث عما ذكر، إلا أن مآله هو بيان تلك الحقيقة العظمى التي ذهلت عنها العقول وشغلت عنها النفوس، ألا وهي حقيقة نهاية الدنيا والرجوع إلى البارئ عزوجل، وانتهاء النفوس إلى المصير المحتوم الذي لا مفر منه، وهنا يلتقي المقصد الكلي من التعبير بالماضي والتعبير بالمضارع في المخالفة.

سابعا: مجيء المضارع خبرا لكان عند اجتماع الصيغتين، وانعدام نصيب الماضي في ذلك، وهذا يرجع إلى ما في كل من الصيغتين من خصوصية في الذهاب بالزمن إلى وجهة تضاد وجهة الصيغة الأخرى، فينتج عن ذلك صورة امتداد الزمن واستمرار أحداثه، وهي صورة لا تتحقق إلا في ذات التركيب.

ثامنا: أن كثيرا من المواطن التي يظن فيها إشكال في آيات القرآن الكريم، إنما هي مواطن الأسرار البلاغية، التي لا تظهر إلا بتأمل وتدبر، وقد حث الكتاب الكريم على التدبر في آياته، والنظر في مكنونه لأنه أودع أسرارا لا تبرز إلا لمن آتاه الله علما واستنباطا.

تاسعا: أن حذف المفعول في القرآن الكريم لغرض تنزيل المتعدي منزلة اللازم كثر في الفواصل القرآنية وخاصة في التشنيع على الكافرين أو حث المؤمنين على الاستزادة في جانب التقوى، ولم يرد تنزيل المتعدي منزلة اللازم على معنى قصر الفعل على فاعل معين إلا إذا كان ذلك الفاعل هو البارئ عزوجل.

عاشرا: توفر البحث على عدد ليس بالقليل من شواهد المخالفة في الآيات القرآنية، حيث كانت محصورة في بعض الجمل، مع شيء من الآيات، بما يؤكد حقيقة ثراء الآيات القرآنية بالشواهد، ويزيل شبهة محدودية الأمثلة البلاغية.

حادي عشر: اعتماد البيانيين في مناقشاتهم لموضوع المخالفة على التحليل والتمحيص والموازنة بين تركيب وآخر، والمقابلة بين الأساليب المتناظرة التي يخفى على غير البصير تمييز مواطن الخصوصية فيها، وتحديد عناصر التفرد والتميز. حيث أوجد ذلك خصوبة في القضايا التي ناقشوها وتفرعت عن محاوراتهم للنصوص، ولم تخل في كثير منها من الاحتكام إلى الذوق البلاغي الذي قلما نراه في مدارسة الأساليب الأدبية. فكانت تلك المحاورات لاشتمالها على فوائد واستنباطات أشبه بالمقاييس التي أفاد منها البحث في الجانب التطبيقي.

ثاني عشر: أن ما عرضه البحث من سعة دلالية لاستعمال صيغ الأفعال في سياقات وتراكيب مختلفة فيه رد واضح على زعم أن في العربية قصورا في تعاملها مع الزمن، وبساطة ثنائية الماضي والمضارع مقارنة بغيرها من اللغات، إذ اتضح شمول التراكيب في العربية لأزمنة متعددة تتجاوز زمني المضي والاستقبال، على الرغم من استعمال المخالفة لصيغتيهما الفعلية في تنويع تلك الدلالات الزمنية وتكثيرها، حتى لترى أثر تلك الدلالة الزمنية بارزة في صدر السياق تفيض بالمعاني والإيحاءات، وتصور أبعاد الحدث المختلفة، وتفيد من خصوصيات الأزمنة التي تحتوي الأحداث في توسيع الدلالات المختلفة لتلك الأحداث، إذ إن للعامل الزمني قدرة على تنويع الدلالات وتكييفها، فلم تعد الأزمنة ظروفا مجردة تبين زمن وقوع الحدث. حيث إن المخالفة قد أفادت من قدرة ذلك العامل على التحكم في سياق الحدث، وتسيير دلالته في مسارات متباينة، فتكشفت مادة الحدث ذات البساطة في الظاهرة عن دلالات أعمق، بين واقع، وإمكان، واستحالة، ووجوب وجواز، وقرب، وبعد، وسرعة، وقوة وضعف وعلو في الرتبة وانحطاط، ومعلوم ومجهول، ونحو ذلك مما لم يكن للفعل مجردا من سياقه، أو حتى بدلالته الزمنية الأولية المنبثقة عن الصيغة قدرة على إبرازه لولا وظيفة العامل الزمني الذي يستوحي وجهة السياق فيكشف عن خواص ومزايا في الأحداث التي يحتويها. وقد عالجت دراسة المخالفة اتجاهاته وأبعاده الوظيفية في السياق حتى تكشف عن تلك الصور البديعة المتعددة.

ثالث عشر: أظهرت دراسة المخالفة تلك الفوارق الواسعة بين مستويين من الكلام هما المحال المخالف للمنظومة المعيارية، والكلام البليغ الذي يخالف في ظاهره تلك المنظومة وهو في حقيقة الأمر مطلب بلاغي، حيث جعل البلاغيون معيار الاعتبار مرجعا لقبول أحدهما بل لتصنيفه في أرقى الكلام، ورد الآخر واعتباره من أرذل الكلام. وهذا المعيار البالغ الدقة يتبناه السياق ويرفد متطلباته.

رابع عشر: ظهر من خلال الدراسة أن تلك الإيحاءات التي أحيتها الدراسات البيانية لآي القرآن العظيم، يمكن أن تستثمر في دراسة الشعر وتحليل أساليبه وتراكيبه على ضوء ما قدمه البيانيون والمفسرون بتناولهم للمخالفة وغيرها من أساليب القرآن، وتمييزهم للتراكيب المتقاربة والمتشابهة، واستخراج فرائد وطرائف يكنها كل تركيب بما يميزه. حيث يمكن القول بأن عمق تلك الدراسات وجدتها يعد منهجا صالحا لدراسة الشعر العربي، ومعرفة إمكانات أساليبه، وطرائق الشعراء وخصوصيات أسلوب الشاعر.

هذا والحمد لله أولاً وآخرا، وصلى الله على نبينا محمد.

* * * * *

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015