ثم كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ من الصحابة والتابعين وتابعيهم يحثون على استنباط العلوم من القرآن الكريم، وتدبر آياته ومعرفة أوجه معاني ودلالات القرآن المرشدة لعلومه استناداً إلى أن هذا الكتاب المنزل من خالق كل شيء ما فرط في ذكر شيء مما خلقه تصريحاً أو تلويحاً أو استدلالاً بمنهج وأسلوب يسير بالإنسان في دروب الهداية والرشد، قال تعالى:} وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ| (الأنعام: 38)، ويقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن) (6).

ويقول مسروق ـ رحمه الله: (من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة) (7).

وذكر السيوطي في الإتقان أن ابن سراقة نقل في إعجاز القرآن عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يوماً: ما من شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله، فقيل له: فأين ذكر الخانات؟! فقال: في قوله تعالى:} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ| (النور: 29) (8).

إن المطلع على تفسير السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يجد فيه العجائب من استنباطهم لأنواع من العلوم صار لها تخصصات وفروع في زمننا بل منها علوم تقوم لها الدنيا وتقعد وهي تتحدث عنها ونحن كنا نمر عليها مرور الكرام عند قراءتها، وهذا التوفيق الذي وفقه السلف لم يكن من فراغ، وإنما لإخلاصهم في البحث عن مراد الله تعالى وحرصهم على سلامة المنهج في دراسة القرآن الكريم وتدبر آياته، إذ المصدر الذي عولوا عليه في ذلك هو تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، هذا مع معرفتهم باللغة العربية وأساليب العرب في الكلام وتقليب أوجه الدلالات اللغوية، إضافة لسعة المدارك الإيمانية ومعرفتهم لسنن الله تعالى في الكون والقرآن.

لقد وفق السلف الصالح من المفسرين كثيراً في شرحهم لمعنى الآيات مع أن حقائقها الكونية كانت محتجبة، ومعلوم أن المفسر الذي يصف حقائق وكيفيات الآيات الكونية في الآفاق والأنفس وهي محجوبة عن الرؤية في عصره قياساً على ما يرى من المخلوقات وفي ضوء ما سمع من الوحي، يختلف عن المفسر الذي كشفت أمامه الآية الكونية، فجمع ما سمع من الوحي وبين ما شاهد في الواقع (9).

ففي تفسير قوله تعالى:} وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ| (المؤمنون: 12 ـ 14)، فقد نقل إلينا من أقوال السلف ـ رضي الله عنهم ـ الآتي: عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: (السلالة: صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد) (10)، ويقول ـ رحمه الله ـ في تفسير النشأة الأخرى للخلق: (خرج من بطن أمه بعدما خلق فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دله على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد إلى أن حبا إلى أن قام على رجليه إلى أن مشى إلى أن فطم، تعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام إلى أن بلغ الحلم إلى أن يتقلب في البلاد) (11).

وعن مجاهد في تفسير السلالة قال: (هو الطين إذا قبضت عليه خرج ماؤه من بين أصابعك) (12).

وعن عكرمة قال: (استل استلالاً) (13).

ولم يمنعهم ما ورد عن النبي من السنة في تفسير هذه الآيات من ذكر معان أخرى يحتملها نظم القرآن ولا يخرج عن مقتضى السنة وأصول اللغة ولا يضادها، فقد مر من قبل ما ورد عن النبي في تفسير قوله تعالى:} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ| (الانفطار: 8)، وقد أثر عن السلف الصالح معان أخرى من ذلك ما ورد عن مجاهد أنه قال: (إما قبيحاً وإما حسناً، وشبه أب أو أم أو خال أو عم) (14).

وعن عكرمة قال: (إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير) (15).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015