قال: فأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها، كل ذلك لقصد حفظ الإثبات الذي جاء به الأنبياء، وهذا هو الذي قصده السلف.
وكان الإمام أحمد يمنع أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؛ كل ذلك ليحمل الناس على الاتباع لا الابتداع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها.
وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فأضعف في النفوس قُوَى التعظيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" [6] ويشير إلى المصحف.
ومنع الإمام الشافعي أن يحمله المحْدِث بعلاقته تعظيما له، فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم، فمعنى قوله هذا: أنه ما ههنا شيء يحترم، فهذا قد ضاد ما أتى به مقصود الشرع.
قال: وينبغي أن تفهم أوضاع الشرع ومقصود الأنبياء، وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع بستره، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلام في القدر [7]، ونهى عن الاختلاف [8]، فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى و عاقب! تزلزل إيمانه بالعدل، وإن قال: لم يقدر ولم يقض، تزلزل إيمانه بالقدر، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء.
قال: ولعل قائلا يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق، بالوقوف مع التقليد.
فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك: الإيمان بالمجمل، فإن قُوَى فهمك تعجِز عن إدراك الحقائق، فإن الخليل عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260]، فأراه ميتا حيي، ولم يره كيف أحياه، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك، يعني: ومثله كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]، لعجز النفس عن إدراك الحقائق على ما هي عليه.
قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم- الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم- يقنع من المسلم بنفس الإقرار واعتقاد المجمل، وكذلك الصحابة، يعني: وما نقل عنهم أنهم قالوا: يجب أن تعلم أن لمولانا من الأوصاف كذا وكذا، ويستحيل عليه كذا وكذا، على سبيل التفصيل.
قال: وما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا أنهم قالوا: استوى بمعنى: استولى، وينزل بمعنى: يرحم، بل قنعوا بإثبات المجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا توهم الخيال بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء).
قال: ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة، فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ [9].
ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة، وتعطيل المعطلة، ووقف على جادة السلف.
موقف إمام الحرمين من العوام
وموقف ابن الجوزي مع العوام، شبيه بموقف إمام الحرمين، أو قريب منه، فقد ذكر في (الغياثي) ما يجب على الأئمة فعله مع عقائد العامة، مؤكدا: أن الذي يحرص الإمام عليه: جمع عامة الخلق على مذهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء. وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون – رضي الله عنهم – عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلد في القرائح. هيهات!
فقد كانوا أذكى الخلائق أذهانا، وأرجحهم بيانا، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات، داعية الغوايات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلَوْن، واليه مدفوعون، فإن أمكن حمل العوام على ذلك فهو الأسلم [10]. انتهى.
واعتقد أن وصية إمام الحرمين هذه كانت قبل أن يعلن رجوعه إلى مذهب السلف في العقيدة النظامية.
ونعم ما أوصى به هذا الإمام.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
موقف الإمام الغزالي
ويشبه هذا موقف تلميذه الإمام أبي حامد الغزالي الذي سجله في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام) وقال فيه:
¥