ولقد رأيت الحافظ الفقيه المؤرخ الداعية الناقد المصلح: أبا الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) يحث في كتابه البديع (صيد الخاطر) على أهمية (الإثبات) بالنسبة للعوام، ويبين فوائد ذلك الإيمانية والسلوكية، ويطيل النفس في ذلك.
على حين رأيناه يجنح إلى التأويل في كتابه (دفع شبه التشبيه) ويحمل على الذين يُجْرون هذه النصوص على ظواهرها، ويبين خطأهم من وجوه عدة، مخالفا لكثير من الحنابلة قبله، وموافقا لعلم كبير من أعلامهم الموسوعيين (شأن ابن الجوزي أيضا) وهو الإمام العلامة ابن عقيل صاحب كتاب (الفنون) (ت513هـ) الذي قال عنه ابن تيمية: كان من أذكياء العالم.
ويرى بعض المعلقين على ابن الجوزي: أنه كان مضطربا في قضية الصفات، فتارة يؤول، وتارة يثبت.
لا تناقض في أقوال ابن الجوزي
والذي ألحظه: أن كلامه في ترجيح الإثبات للعوام لا ينافي كلامه في وجوب التأويل للعلماء، فالجهة منفكة، والمقامان مختلفان، ولكل مقام مقال.
فهو يرى أن صرف هذه النصوص من الآيات والأحاديث عن ظواهرها: يخدش من تعظيم الله – جل شأنه - المستكن في قلوب العامة بما توحي به ظواهر هذه الألفاظ، من إظهار العظمة والكبرياء، والسلطان المطلق لله عز وجل، وما يخشى من طروء (التشبيه) على عقولهم، تطرده عقيدة التنزيه الراسخة في نفس كل مسلم (ليس كمثله شيء).
ولنقرأ معا هذا النص لهذا الإمام البصير الحريص على قلوب العوام حرصه على التقديس والتنزيه. يقول رحمه الله فيما نقله عنه علامة الحنابلة المتأخرين الشيخ مرعي في كتابه (أقاويل الثقات):
نصيحة ابن الجوزي
قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر):
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات، فإن الأنبياء عليهم السلام بالغوا في الإثبات ليقرروا في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات، فكان من أعظم الضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوما لإثبات الأنبياء بالمحو، وشارعا في إبطال ما بعثوا به.
قال: وبيان هذا أن الله أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس بإثبات الإله ووجوده، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقال: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6]، {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119]، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه ينزل إلى السماء الدنيا [2]، وقال: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" [3]، وقال: "كتب التوراة بيده" [4] و: "كتب كتابا فهو عنده فوق العرش" [5]، إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكان يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس، قيل له: (ليس كمثله شيء) فمحا من قلبه ما نقشه، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة.
وأكثر الخلق لا يعرفون من الإثبات إلا بما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه، ولهذا صحح الشارع إسلام من اعتصم من القتل بالسجود.
قال: فأما إذا ابتدأ العامي الفارغ القلب من فهم الإثبات، فقيل له: ليس في السماء، ولا على العرش، ولا يوصف بيد، وكلامه إنما هو الصفة القائمة بذاته، وليس عندنا منه شيء، ولا يتصور نزوله، انمحى من قلبه تعظيم المصحف الذي الاستخفاف به كفر، ولم ينقش في سره إثبات إله، وهذه جناية عظيمة على الأنبياء توجب نقض ما تعبوا في إثباته.
قال: فلا يجوز للعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيكدره، فإنه يفسده، ويصعب علاجه، فأما العالم فإنا قد أمناه، فإنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة لله، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون سبحانه محمولا، ولا أن يوصف بملاصقة ومماسة، ولا أن ينتقل، ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين إصبعين: إنما هو الإعلام بالتحكم في القلوب، فإن ما يديره الإنسان بين إصبعيه هو متحكم فيه إلى الغاية، ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع: الأثر الحسن، ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات، وقد حُدثنا بما نعقل، وضُربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به: أنه لا يجوز عليه تعالى ما يعرفه الحس، فهمنا المقصود بذكر ذلك.
¥