يستنتج من سياق الآيات التي ورد فيها لفظ التدبر في ا لقرآن ومناسبتها لما قبلها، وكلام العلماء في معنى التدبر، ومعنى القرآن فيها ما يأتي:
1ـ أن الله تعالى ذكر تدبر القرآن بعد ذكره لحال المعرضين عنه، وجعله علاجاً لهم يعيدهم إليه، ويملأ قلوبهم إيماناً ويقيناً، والتدبر الذي هذا أثره أوسع من معرفة المعنى فقط؛ فهو يتعدى معرفة المعنى إلى معرفة الحق والصدق في ذلك المعنى بموازنته بما يخبر عنه وصدقه فيه، وفي تناسقه فيما بينه وفي ألفاظه، وفي كل ما يؤخذ منه ويدل على مصدرية هذا القرآن وكمال المتحدث به وما يستحقه من الكمال.
2ـ في تفسير العلماء وكلامهم في لفظ التدبر في الآية، وتفسيرهم للقرآن في الآية بالمواعظ والحجج ما يدل على أنه يدخل في معنى التدبر بكماله الاتعاظ ومعرفة الدلائل وفهمهما.
وتحتوي هذه الأقوال على ثلاثة أنواع من النظر يشملها معنى التدبر:
أحدها: التفكر وهو النظر في الأمر مطلقاً.
والثاني: النظر في العواقب.
والثالث: النظر فيما يخفى من الأمور.
وهي من المعاني التي سبق ذكرها عند تفسير الآية السابقة.
المبحث الثاني: مفهوم تدبر القرآن ومنهجه في ضوء الدراسة التحليلية لآياته.
المطلب الأول: مفهوم تدبر القرآن في ضوء الدراسة التحليلية لآياته.
أولاً: أنواع الأعمال التي يتضمنها مفهوم التدبر
من خلال الآيات السابقة وتفسير العلماء لها يلاحظ أن التدبر، وإن كان أصله النظر في دبر الأمر إلا أنه عملية مركبة تحوي الكثير من الأعمال إما من خلال معناه الأصلي وإما من خلال ما يتضمنه ذلك المعنى أو يستلزمه أو يقتضيه من أعمال أخرى: ومن تلك الأعمال:
1ـ النظر والتفكر والتأمل بمختلف درجاته وأنواعه.
2ـ التركيز. فإن النظر الذي يبحث عن النتائج والمآلات ويلاحظ العواقب. لابد أن يتضمن التركيز.
3ـ تكرار النظر وإمعانه والاستمرار فيه. يفهم ذلك من أن التدبر يتضمن نظراً في عواقب الأمور التي قد تكون خفايا لم تظهر بعد وتحتاج إلى تنبؤ بناء على دراسة سوابقها ومباديها وأجزائها. والأمور التي تلك طبيعتها تكون أحياناً سوانح وأفكاراً تومض وتذهب فتحتاج إلى العود إليها وتكرار النظر فيها واختبارها وتمحيصها لمعرفة صحتها وخطئها. وكل ذلك يستلزم التكرار وطول المدة.
4ـ الموازنة ولها مجالات:
أ. الموازنة بين المعاني في الكلمة أو الجملة الواحدة.
وذلك لأن من مفهوم تدبر القرآن النظر في معنى اللفظ وما يؤول إليه من معان وذلك يستلزم الموازنة بين المعاني المتعددة في النص، سواء كانت لغوية، أو مأخوذة بقرائن السياق والحال. ومن ثم حمل اللفظ على جميع المعاني اللائقة به، مع الترتيب بينها حسب نوعية دلالة النص. فما يدل عليه اللفظ بالمطابقة ـ إن كان مراداً، يتقدم في الأولوية على ما يؤخذ من قرائن السياق، وقرائن الحال، وما يؤخذ من قرائن السياق والحال، مقدم على ما يشير إليه اللفظ من باب الإشارة. وهكذا. ..
ب.الموازنة بين المعاني في القرآن.
وذلك لأن من مفهوم التدبر نفي الاختلاف بين معاني القرآن وإثبات التناسب والتناسق فيما بينها، وهو التشابه الكلي. قال تعالى: ?الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله .. ? الزمر [23]
وذلك لا يتأتى إلا بالموزانة بين المعنى المستفاد ومعاني القرآن عموماً ومعاني الموضوع التي تتحدث فيه الآية خصوصاً لاكتشاف التناسق والتناسب، في الموضوع أو في الأسلوب.
ج. الموازنة بين المعاني ومآلاتها في الواقع.
وذلك لأن من مفهوم التدبر اكتشاف مطابقة الخبر القرآني لواقعه، وذلك يستدعي الموازنة بين المعاني القرآنية وما تتحدث عنه في الواقع لاكتشاف تلك المطابقة وعدم الاختلاف.
5ـ الاستنتاج:
فبما أن من مفهوم التدبر في القرآن إدراك التناسق وعدم الاختلاف، فإن استنتاج النتائج المترتبة على الموازنة بين المعاني وما تخبر عنه وكشفها يعد من الأعمال التي تدخل في التدبر.
ثانياً: أنواع النظر التي يتضمنها مفهوم التدبر عموماً:
1ـ النظر في أدبار الأمور وعواقبها.
2ـ النظر في بداية الأمر وأجزائه وسوابقه.
3ـ النظر المستغرق للحدث أو الأمر في رحلته من أوله إلى منتهاه.
4ـ النظر في خفيات الأمور.
¥