كما تتحدد فائدته وغايته, وهي: التأثر والعمل, وهما متلازمان في الواقع, وفي آيات التدبر السابقة إشارة ظاهرة متكررة إلى هذه الغاية, كما أنه يطابق المعنى الذي ينتهي إليه البحث اللغوي, وهو: النظر في عواقب الأمور وما تنتهي إليه. وهذا موضع التأثر والعمل في باب التدبر, ولئن صح معنى التدبر في غير القرآن بلا قيد التأثر والعمل, فلا يصح في القرآن إلا بهما.

وتتحرر بذلك أيضاً جملة من المسائل المتعلقة بهذا المفهوم, ومن أبرزها: هل يشترط العلم بمعنى الآية لصحة تدبرها؟ والجواب يتوقف على تحديد المعنى المراد تدبره, فإن كان المعنى موضع التدبر هو تفسيرها ومعناها المباشر؛ صح اشتراط العلم بتفسير الآية ليصح التدبر المبني عليها, وإن كان المعنى موضع التدبر أحد المعاني المستنبطة - والتي لها نوع علاقة بالمعنى المباشر- فيكفى من هذا الشرط العلم بهذا المعنى المستنبط, والاطمئنان إلى صحة علاقته بالآية, وارتباطه بها.

وفيما نرى من تأثر كثير من العرب والعجم بسماع القرآن وتلاوته مع عدم إدراكهم لتفاصيل معناه, ومرتبة هذا المعنى تفسيرا أو استنباطا = دليل على صحة التوسع في هذا الباب, وعدم تضييقه, وأن كل تأمل أورث علما صحيحا (ولو مجملا) , وعملا صالحا هو تدبر مأمور به, ومأجور عليه.

ويكفي علمَ التفسير شرفاً أنه خيرُ معين للوصول إلى هذه الغاية الشريفة من إنزال القرآن: {ليدَّبَّرُوا آياته}.

ومن المسائل المتعلقة أيضاً: هل تشترط سلامة القلب لصحة التدبر؟ والجواب يتبين من تحديد غاية هذا الباب وهي: التأثر والعمل, فهما تابعان للتدبر ونتيجتان له, فلا يصح تقدمهما عليه ولا يكون, وفي قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد 24] , دلالة على هذا؛ فالخطاب في الآية يشمل غير المؤمنين قطعاً, وأظهر منه قوله تعالى {أفلم يدبَّروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} [المؤمنون 68] , {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء 82] , ومن ثَمَّ فلا يصح اشتراط ذلك لصحة التدبر؛ ولكن لكمال الانتفاع به, وفي القرآن دلائل عديدة على أن لسلامة القلب أثر في تمام الانتفاع بالقرآن وفهم المراد: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين, لينذر من كان حياً} [يس 69 - 70].

وأخيراً: هل في التدبر تدبر صحيح, وتدبر فاسد؟ والجواب أن التدبر لا يُوصِل لغير الحق, ولا يتوصل به إلى باطل؛ ومن ثم حُدِّدَ معنى التدبر سابقاً بذكر: قصد معرفة الحق والعمل به. فهو حالة خاصة يتجرد فيها قارئ القرآن وسامعه من حظوظ النفس والهوى والأحكام المسبقة, فكأنه نازلٌ عليه ومخاطب به على الخصوص, فلا تملك النفس في حالة كهذه غيرَ الانقياد والاستسلام حين يهيمن القرآن عليها, ويستولي على عقل ولب سامعه, وبالتأمل في ما أصاب الوليد بن المغيرة عند سماعه لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة فصلت, وكذا حال جبير بن مطعم حين سمع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة الطور, يتبين ذلك الحال بجلاء, ثم إن حصل انقياد بعد ذلك تَمَّ به أثر التدبر وغايته, وهو بهذا أقرب ما يكون إلى معنى الإنصات المأمور به في قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف 204].

-------------

(*) ومنها قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء 64] , وقوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء 25]. وقد قرر الإمام الشاطبي أن: (كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لا يدل على استحسانه دليل شرعي. وأعني بالعمل: عمل القلب, وعمل الجوارح). ينظر: الموافقات 1/ 43 - 66.

ـ[نايف الزهراني]ــــــــ[23 Jun 2008, 04:57 م]ـ

هذه المسائل أضعها أيضاً لتدبر إخواني فيها , ولازال في الموضوع مُتَّسع من الجوانب التي يحسن بيانها , أسأل الله أن ينفع بها.

ـ[أبو المهند]ــــــــ[23 Jun 2008, 06:34 م]ـ

عرض طيب نافع، وجزاك الله عما قدمت خيرا يا شيخ نايف.

ـ[يسري خضر]ــــــــ[24 Jun 2008, 12:14 ص]ـ

بارك الله فيك يا أبا بيان علي هذا البيان

ـ[أبو عائش]ــــــــ[27 Jun 2008, 05:56 ص]ـ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015