فهل تعرف مقدار الخردلة من الظلم ما هو، وكيف يكون؟ لو نجع فيك هذا الوعيد لطارت منك الشهوات، ومات منك الهوى. فأهل الفهم راضوا أنفسهم وتدبروا، فقالوا: كيف كيف لنا بأن لا نأسى على ما يفوتنا من الدنيا، وتمنوا إليه حاجة، وطلبوا من أين يدخل الضرر عليهم، فوجدوا أنهم لما عارضتهم الحوائج في أنفسهم، تحدثوا بها وتمنوها، وطلبوها على التملك والاقتدار، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فلما فاتهم، وجدوا الأسى والحزن على
فوت ذلك؛ ففهموا أن هذا إنما دخل عليهم من أجل أنهم تمنوها، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فوجدت النفس حلاوة وجودها، وقوى الهوى، فراضوا أنفسهم بترك الشهوات، وقطع المنى، فخمدت نيران شهواتهم، ففارقوا الهوى جهدهم، لمجاهدتهم إياه، حتى ذلل وأنقمع، وكلما بدا لهم أمر، أو خطر ببالهم، لم يتمنوا ولا أطمعوا أنفسهم، وانتظروا ما يبرز لهم من المسطور في اللوح السابق قبل خلق السموات، فسلموا لربهم، وانقادوا لحكمته كالعبيد،