فَإِذا قدمت الْعلم بِمَا قدمنَا لَك من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فاشتغل بِمَا شِئْت واستكثر من الْفُنُون مَا أردْت وتبحر فِي الدقائق مَا اسْتَطَعْت وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عَلَيْك بقول الْقَائِل
(أَتَانَا أَن سهلا ذمّ جهلا ... علوما لَيْسَ يعرفهن سهل)
(علوما لَو دراها مَا قلاها ... وَلَكِن الرضى بِالْجَهْلِ سهل)
وَإِنِّي لأعجب من رجل يَدعِي الْإِنْصَاف والمحبة للْعلم وَيجْرِي على لِسَانه الطعْن فِي علم من الْعُلُوم لَا يدْرِي بِهِ وَلَا يعرفهُ وَلَا يعرف مَوْضُوعه وَلَا غَايَته وَلَا فَائِدَته وَلَا يتصوره بِوَجْه من الْوُجُوه
وَقد رَأينَا كثيرا مِمَّن عاصرنا ورأيناه يشْتَغل بِالْعلمِ وينصف فِي مسَائِل الشَّرْع ويقتدي بِهِ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّهُ سمع مَسْأَلَة من فن من الْفُنُون الَّتِي لَا يعرفهَا كعلم الْمنطق وَالْكَلَام والهيئة وَنَحْو ذَلِك نفر مِنْهُ طبعه وَنَفر عَنهُ غَيره وَهُوَ لَا يدْرِي مَا تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَلَا يَعْقِلهَا قطّ وَلَا يفهم شَيْئا مِنْهَا
فَمَا أَحَق من كَانَ هَكَذَا بِالسُّكُوتِ وَالِاعْتِرَاف بالقصور وَالْوُقُوف حَيْثُ أوقفهُ الله والتمسك فِي الْجَواب إِذا سُئِلَ عَن ذَلِك بقوله لَا أَدْرِي
فَإِن كَانَ وَلَا بُد متكلما ومادحا أَو قادحا فَلَا يكون متكلما بِالْجَهْلِ وعائبا لما لَا يفهمهُ بل يقدم بَين يَدي ذَلِك الِاشْتِغَال بذلك الْفَنّ حَتَّى يعرفهُ حق الْمعرفَة ثمَّ يَقُول بعد ذَلِك مَا شَاءَ
وَلَقَد وجدنَا لكثير من الْعُلُوم الَّتِي لَيست من علم الشَّرْع نفعا عَظِيما وَفَائِدَة جليلة فِي دفع المبطلين والمتعصبين وَأهل الرَّأْي البحت وَمن لَا اشْتِغَال لَهُ بِالدَّلِيلِ
فَإِنَّهُ إِذا اشْتغل من يشْتَغل مِنْهُم بفن من الْفُنُون كالمشتغلين بِعلم الْمنطق