وَكنت فِي أَوَائِل أَيَّام طلبي للْعلم فِي سنّ الْبلُوغ وَبعدهَا بِقَلِيل تصورت مَا ذكرت هُنَا فَقلت
(سددت الْأذن عَن دَاعِي ... التصابي فَلَا دَاع لدي وَلَا مُجيب)
(وأنفقت الشبيبة غير وان ... لمجد الشيب فليهن المشيب)
وَقلت أحب رامز إِلَى هَذَا الْمَعْنى
(وأبدي رَغْبَة لنجود نجد ... وشوقا لَا نتشاقى مِنْهُ ريحًا)
(وَمَا بسوى العقيق أَقَامَ قلبِي ... وأضحى بَين أهليه طريحا)
وَأما كَون الرذائل حلوة الْأَوَائِل مرّة العواقب فَصدق هَذَا غير خَافَ على ذِي لب فَإِن من أرسل عنان شبابه فِي البطالات وَحل رِبَاط نَفسه فأجراها فِي ميادين اللَّذَّات أدْرك من اللَّذَّة الجسمانية من ذَلِك بِحَسب مَا يتَّفق لَهُ مِنْهَا وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَا مَال وجمال وَلكنهَا تَنْقَضِي عَنهُ اللَّذَّة وتفارقه هَذِه الْحَلَاوَة إِذا تَكَامل عقلهَا وَرجح فهمه وَقَوي فكره فَإِنَّهُ لَا يدْرِي عِنْد ذَلِك مَا يدهمه من المرارات الَّتِي مِنْهَا الندامة على مَا اقترفه من معاصي الله ثمَّ الْحَسْرَة على مَا فَوته من الْعُمر فِي غير طائل ثمَّ على مَا أنفقهُ من المَال فِي غير حلّه وَلم يفز من الْجَمِيع بِشَيْء وَلَا ظفر من الْكل بطائل
وتزداد حسرته وتتعاظم كربته إِذا قَاس نَفسه بِنَفس من أشتغل بِطَلَب الْمَعَالِي من أترابه فِي مقتبل شبابه فَإِنَّهُ لَا يزَال عِنْد موازنة ذَاته بِذَاتِهِ وَصِفَاته بصفاته فِي حسرات متجددة وزفرات متصاعدة وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بَيته فِي الْعلم طَوِيل الدعائم وسلفه من المتأهلين لتِلْك الْمَعَالِي والمكارم فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تذْهب عَنهُ سكرة البطالة وتنقشع عَنهُ عماية الْجَهَالَة بكروب طَوِيلَة وهموم ثَقيلَة وَقد فَاتَهُ مَا فَاتَ وحيل بَين العير والنزوان وَحَال الجريض دون القريض وَفِي الصَّيف ضيعت اللَّبن
فَانْظُر أعزّك الله أَي الرجلَيْن أربح صَفْقَة وَأكْثر فَائِدَة وَأعظم عَائِدَة فقد بَين الصُّبْح لذِي عينين وَعند الصَّباح يحمد الْقَوْم السرى