نَفْسِهِ بِالسُّؤَالِ وَالنَّظَرِ؛ لِيَصِلَ إلَى تَصَوُّرِ الْمَعْنَى وَإِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تُخْلِ قَلْبَك مِنْ الْمُذَاكَرَةِ فَتَعُدْ عَقِيمًا، وَلَا تُعْفِ طَبْعَك مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَيَعُدْ سَقِيمًا.
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ السُّؤَالِ وَإِنَّمَا ... دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ
فَكُنْ سَائِلًا عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا ... دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ
وَالثَّانِي: أَفْكَارٌ تُعَارِضُ الْخَاطِرِ فَيَذْهَلُ عَنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى.
وَهَذَا سَبَبٌ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا فِيمَنْ انْبَسَطَتْ آمَالُهُ وَاتَّسَعَتْ أَمَانِيهِ. وَقَدْ يَقِلُّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ أَرَبٌ، وَلَا فِيمَا سِوَاهُ هِمَّةٌ، فَإِنْ طَرَأَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُكَابَرَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْفَهْمِ وَغَلَبَةِ قَلْبِهِ عَلَى التَّصَوُّرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَشَدُّ نُفُورًا، وَأَبْعَدُ قَبُولًا. وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ بِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ، وَلَكِنْ يَعْمَلُ فِي دَفْعِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ هَمٍّ مُذْهِلٍ أَوْ فِكْرٍ قَاطِعٍ لِيَسْتَجِيبَ لَهُ الْقَلْبُ مُطِيعًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَيْسَ بِمُغْنٍ فِي الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ ... إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرَ كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ، وَالتَّوَسُّطِ فِي التَّقْدِيمِ؛ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا، وَيَدُومَ نَشَاطُهَا. فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْمُسْتَمِعِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعَانِي.
وَهَا هُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ. وَلَكِنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْ بَعْضِ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ، وَلَمْ نَسْتَجِزْ الْإِخْلَالَ بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إلَى تَأَمُّلِ الْخَطِّ بِهِ.
وَالْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهِ هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِهِ وَمِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا بِالْخَطِّ، مَحْفُوظًا بِالْكِتَابَةِ، مَأْخُوذًا بِالِاسْتِخْرَاجِ، فَكَانَ الْخَطُّ حَافِظًا لَهُ وَمُعَبِّرًا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] قَالَ: يَعْنِي الْخَطَّ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ