مَعَك الْوَادِيَ، وَلَا يُعَمِّرُ بِك النَّادِيَ، وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ يَنْفَعُنِي ... قَلْبِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِي
إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي ... أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ
وَرُبَّمَا اعْتَنَى الْمُتَعَلِّمُ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ وَلَا فَهْمٍ حَتَّى يَصِيرَ حَافِظًا لِأَلْفَاظِ الْمَعَانِي قَيِّمًا بِتِلَاوَتِهَا. وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهَا وَلَا يَفْهَمُ مَا تَضَمَّنَهَا يَرْوِي بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَيُخْبِرُ عَنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ.
فَهُوَ كَالْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْفَعُ شُبْهَةً، وَلَا يُؤَيِّدُ حُجَّةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الرِّعَايَةُ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً، فَقَدْ يَرْعَوِي مَنْ لَا يَرْوِي، وَيَرْوِي مَنْ لَا يَرْعَوِي. وَحَدَّثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، عَمَّنْ؟ قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِعَمَّنْ، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ نَالَتْك عِظَتُهُ، وَقَامَتْ عَلَيْك حُجَّتُهُ. وَرُبَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ، وَأَغْفَلَ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِ ثِقَةً بِمَا اسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ مُعْتَرِضٌ وَالنِّسْيَانَ طَارِقٌ.
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» . وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ: اسْتَعْمِلْ يَدَك، أَيْ اُكْتُبْ حَتَّى تَرْجِعَ إذَا نَسِيتَ إلَى مَا كَتَبْتَ» . وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اجْعَلْ مَا فِي الْكُتُبِ رَأْسَ الْمَالِ، وَمَا فِي الْقَلْبِ النَّفَقَةَ. وَقَالَ مَهْبُودٌ. لَوْلَا مَا عَقَدَتْهُ الْكُتُبُ مِنْ تَجَارِبِ الْأَوَّلِينَ، لَانْحَلَّ مَعَ النِّسْيَانِ عُقُودُ الْآخِرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ هَذِهِ الْآدَابَ نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ عَقْلِ الْأَذْهَانِ فَاجْعَلُوا الْكُتُبَ عَنْهَا حُمَاةً، وَالْأَقْلَامَ لَهَا رُعَاةً.
وَأَمَّا الطَّوَارِئُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: شُبْهَةٌ تَعْتَرِضُ الْمَعْنَى فَتَمْنَعُ عَنْ نَفَسِ تَصَوُّرِهِ وَتَدْفَعُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَنْ