قال تعالى: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]: فيه نسبة هذه الدعوة إلى الله تعالى، وهذه نسبة ما أشرفها! لكن لا يتحقق هذا الانتساب فتكون الدعوة دعوة ربانية إلى الله فعلاً حتى تكون ربانية في أصلها ومصدرها طريقها ومنهجها غايتها ومقصدها.
أما في الأصل والمصدر: فبأن ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله كتاباً وسنة؛ فإن نقاء الأصل فيه نقاء الثمر وصحته وقوته، وهو الذي يثمر الثمار الطيبة، فلو كانت الدعوة إلى الله بزعم صاحبها تعتمد على أصول غير الكتاب والسنة، كالطريقة اليونانية في الكلام، أو التقليد الأعمى في الطرق الفقهية، أو السياسات المأخوذة عن الرؤساء والملوك ونحو ذلك أو أصول التهذيب المأخوذة عن أهل الضلال من المخالفين لأهل الإسلام في تهذيب القلوب والأعمال والمقامات البدعية ونحو ذلك، ثم ينتسب إلى الله، لكن المصدر عنده حكمة الهنود، أو أهل وحدة الوجود أو المبتدعون من أهل البدع، فهذه لا يمكن أن تكون دعوة ربانية، وإن انتسبت إلى أنها دعوة إلى الله؛ إذ الدعوة الربانية لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:106]، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]، وقال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113].
أما الدعوات التي تتخذ من المناهج الكلامية، أو الطرق الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكمات العقول مصدراً لها فهي لا تستحق أن تكون دعوات ربانية وإن انتسبت إلى ذلك، لذلك بقدر ما نُحصّل من الكتاب والسنة، وتكون دعوتنا فيما نكلم الناس فيه مبنية على الوحي، فنقول لهم: قال الله وقال الرسول، حتى من لا يسمعون منك قال الله وقال الرسول تقول لهم ما قاله الله والرسول بطريقة بيان الحجة، كما قال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ونحو ذلك من مناظرة الأنبياء، وبالمناظرات العقلية التي تبين الحجج القرآنية فتذكر لهم ما يقوله الله عز وجل في مقام البيان، وتبين لهم بلسانهم؛ ليتضح لهم الأمر، كبيان معاني الآيات، والأحاديث.
والعبد عندما يدعو إلى الله لا يلزمه أن يحصل على شهادات، مثلما يصنع بعض الجهلة والزنادقة والمنافقين حينما يريدون إيقاف الدعوة إلى الله عز وجل بذلك، لو تأملتم الشهادات الموجودة اليوم لوجدتم أنها لا قيمة لها، -نسأل الله العفو والعافية- فعلى قدر ما عنده من قال الله وقال الرسول يكون داعياً إلى الله عز وجل.
وحتى لو انتسبت إلى الدعوة الصحيحة ولم يكن عندك العلم الشرعي الأصل والمصدر الذي تبنى عليه الدعوة والفهم الصحيح للكتاب والسنة فلن تكون داعياً إلى الله، وقد تقول في الدنيا: أنا منتسب إلى الدعوة السلفية، لكن هذا لن ينفعك يوم القيامة إذا لم يكن عندك حظ من العلم الشرعي، فلكي تكون دعوة إلى الله لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، ولابد أن تكون ربانية في وسائلها ومنهجها، بمعنى: أن تتبع القواعد الشرعية في السلوك، فليست الغاية تبرر الوسيلة كما يظن كثير من الناس، فإذا أردت أن تكون على منهج الأنبياء فالغاية لا تبرر الوسيلة، بل الوسيلة من عند الله، كما أن الغاية إليه وحده، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة من قبله من الأنبياء فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقها وما يقدم وما يؤخر، وما هي موازين المصالح والمفاسد حتى لا تختلط الأمور وتلتبس الأحوال.
فالوسائل ليست توقيفية كما يظن البعض فيمنع من استعمال أي وسيلة لم تكن واردة من قبل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالوسائل المعاصرة فيمنع استخدام المجلات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرؤها، وكذا الأشرطة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمعها، أو يقول عن رحلة لغرض التربية: هذه بدعة، فهذا لم يُعمل ولم يجتمع الناس عليه على أنه يمكن أن يقال: كانت عندهم رحلات شهرية في الغزو في سبيل الله يتربون من خلالها، وتوجه لهم التربية الإيمانية من خلال الأعمال الصالحة.
فاجتماع الناس على طاعة من الطاعات، وتوجيههم إليها بوسيلة من الوسائل المشروعة وإن كانت معاصرة أمر مطلوب، ووجه مشروعيتها: أن تكون ربانية متفقة مع الكتاب والسنة فلا نتبع الطرق الباطلة بدعوى أننا نريد الوصول إلى الحق، كمداهنة أهل الباطل بزعم أننا لابد وأن نصل إليهم من خلال موافقتهم فيما يدعون، وتعجب أن ترى من الناس من يوافق أهل الباطل في باطلهم ويشاركهم فيه وهو يعلم أنه باطل، فيشارك الكفار في أعيادهم، ويزعم أن في ذلك مصلحة الدعوة، وإذا سألته: هل تعتقد أن عيد القيامة مجيد حتى تشارك النصارى فيه؟ فسيقول لك: لا، ولكن المصلحة تقتضي ذلك! وهذا عين المنكر ولا يمكن أن يكون من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، بل هذه وسائل منحرفة.
ومن ذلك تقديم المصالح وتأخيرها بناء على الأهواء، وهنا لابد أن نعلم ما هي موازين التقديم والتأخير.
وسنضرب بعض الأمثلة في توجيه القرآن لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام: قال عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما جاءه ابن أم مكتوم ليتعلم الدين وكان مشغولاً بدعوة غيره عليه الصلاة والسلام من رءوس الكفر، فأعرض عن هذا الأعمى لمصلحة الدعوة، فعاتبه الله عز وجل، وذلك أن مصلحة الدعوة في هدم موازين الجاهلية وليس في تعظيمها، فموازين الجاهلية في أن يقدم الكبير وإن كان كافراً، كما يقدم الغني وإن كان ظالماً ضالاً، ويهمل الفقير الضعيف، فكان لا بد من هدم هذه الموازين، وكذا قال عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].
فهذا الأمر منذ نبوة سيدنا نوح عليه السلام لم يتغير، فقد كان الكفار يقولون: اطرد الفقراء ونحن سنأتي معك، -والعياذ بالله- فيوحي الله عز وجل على نوح أن يقول: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29]، لا ينبغي أن نقبل المداهنة في الباطل، كأن يقال: إن من وسائل الدعوة: ألا نذكر ما يغضب الناس منا، فلو أن أناساً يغضبون عند الحديث عن السياسة فسنترك الحديث عن السياسة، وآخرون يغضبهم الحديث عن التوحيد، فسنترك الكلام عن التوحيد، وهكذا أشياء كثيرة لا ينبغي بزعمهم التحدث عنها مراعاة للناس، وهذه من أخطر القضايا، بل لا بد أن نعلم أن قضايا الإيمان والإحسان لا تقبل المداهنة، بمعنى: أنها لا تقبل أن يسكت الإنسان عنها أو يحجم عن بيانها، فضلاً عن أن يبين خلافها أو يذكر خلافها.
فتجد من يسأل عن حكم شرعي في التبرج، وأهل التبرج أمام عينيه، وقد يسألونه عن البنطلون الجنز، فيحدثهم عن رحمة الله الواسعة، وعن سعة صدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعن مغفرة الله عز وجل، ولا يجيب عن أسئلتهم؛ لأنه إن أجابهم وبين لهم حرمة ذلك فسيسمونه بالمتطرف.
ونود التنبيه هنا إلى أنه ليس المقصود من أمثلتنا الوسائل المعاصرة في تبليغ الحق للناس، أو التي تسهم في تربية الناس على الحق بأي طريقة شرعية صحيحة وإن كانت مختلفة بشرط أن تخلو من البدع والضلالات، بل ما ننبه عليه هو المداهنة التي تسمى اليوم وسيلة، ومن صورها ما يفعله البعض عندما يكون في مجتمع كافر بل أحياناً في مجتمعات المسلمين حيث يساير الناس فيما هم مقبلون عليه من التعامل بالربا أو من شرب الخمر، ويبرر فعله الشنيع بقوله: هذا من مصلحة المسلمين، عجباً كيف تكون مصلحتهم في أن يشاركوا في هذه المجالات؟! وقد يبرر فعله بدعوى التوصل إلى التأثير، أو أخذ خبرة في البنوك ويشيع أنه لا مانع من أن تدخل البنوك الربوية بحجة التعلم أو عدم ترك هذه المجالات فارغة، فيدخل معهم في كل مجال حتى في الربا، أو في الأفلام السينمائية، أو القرى السياحية.
وكل ذلك بدعوى المصلحة وقد يعدها من وسائل الدعوة وهي ليست كذلك؛ لأنك في الحقيقة تعتبر مشاركاً للمنكر.
سألت مرة امرأة أحد الدعاة المشهورين في بلد من بلاد الكفار عن زوجها الذي كان لديه سوبر ماركت وهو يريد أن يضع عليه (ماركة عالمية)، وهذه الماركة من الماركات المشهورة، وعند وضعها يصير فرعاً من فروع هذه الماركة، وسيربح عند ذلك أموالاً طائلة، لكن إدارة الماركة اشترطوا عليه أن يبيع الخمور، وقد نصحته الزوجة بحرمة ذلك، والزوج مصر على العرض، فقال لها الداعية: لا أستطيع أن أفتي زوجك بترك العمل من أجل قليل من الكحوليات، ويبرر ذلك بأنه من أجل مصلحة قوة الاقتصاد الإسلامي، ومثله أهل الباطل والضلال والزندقة والنفاق المنتسبون إلى أهل العلم الذين يقولون: لا بد من بيع الخمر من أجل السياحة فهذا ضلال مبين، فلا يجوز للمسلم أن يظن أن هذا من وسائل الدعوة، أو أنه طالما أن غايته أن يدعو إلى الله عز وجل، أو أن يعبد الناس لربهم، أو أن يدعوهم إلى الالتزام بالإسلام، فله إن من أجل ذلك أن يستحدث الموازين الباطلة، ويقدم المصالح الموهومة على المصالح الشرعية، ويخلط الحق بالباطل من أجل قبول الناس لشيء من الحق، فهذا انحراف أيما انحراف.
يقول لك سأشاركهم في ضلالهم من أجل أن أدعوهم إلى الله، بل لا تشاركهم في ضلالهم إلا أن تنكر عليهم ذلك.
أما أن يكون البديل الإسلامي المقترح هو الخوض في المنكرات.
فهذا لا يجوز أن يكون حلاً إسلامياً.
فالمقصود أن الطريق والمنهج والوسائل لابد أن تكون أيضاً ربانية حتى تكون دعوة إلى الله، وإلا لوكانت دعوة مقصدها الله سبحانه وتعالى، ولكنها في وسائلها غير ربانية فهي لا تستحق أن تكون دعوة إلى الله، فلا بد أن تكون كذلك في الأصل والمصدر والطريق والمنهج والغاية والمقصد الغاية والمقصد لابد أن يكون وجه الله والدار الآخرة لا غير، وذلك من خلال العمل لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، {فَم