قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرقة الناجية: (هي الجماعة)، والحديث في الصحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
فالقضية الأولى المستفادة من هذا أن السبيل واحدة، ولابد أن نكون عليها جميعاً، ولا يسع الناس أن يتفرقوا في المناهج، ولا يسعهم أن يختار كل واحد منهم لنفسه بين السنة والبدعة، أو أن يقف موقفاً متوسطاً بين السنة والبدعة زاعماً أنه يريد تجميع الناس، لا يجوز ذلك بل يجب أن يكون الناس على طريق واحد، أصحاب الحق هم أهل السنة والجماعة ومنهجهم الواضح لا يجوز أن يختلف الناس فيه أو يبتعدوا عنه، والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريقة السلف تعدد مذموم.
وهناك تعدد آخر يرجع سببه إلى اختلاف الهمم والنوازع، فتجد إنساناً همته في طلب العلم وآخر همته في الجهاد، وآخر في النفقة في سبيل الله فتلك كلها سكك داخل الطريق الواحد، لكن الطريق كله يسير متوازياً بأطرافه فكل جهة توازي الأخرى لكن التعدد الناشئ عن المناهج هذا اختلاف تضاد يتجه نحو الاختلاف المذموم لذلك من يحاول تسطيح الخلافات الإسلامية، فيجعلها مسائل سطحية بسيطة، ويردد: لا ينبغي أن نتصارع أو نختلف، وينصب نفسه داعية للتوحد وما يصنعه محض كذب إذ لا يتم التوحد إلا باتحاد المنهج، ولذا نقول: إن الاختلاف والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريق السلف تعدد مذموم ووجوده شر على الدعوة والدعاة، وتفرقة للقلوب، وبث للضغينة والحسد والغيبة والنميمة.
وبعض الناس يأتي ويقول لأهل السنة: إنكم أنتم سبب ما يحدث فأنتم تفرقتم واختلفتم معاشر الجماعات الإسلامية.
إن من يتحمل وزر هذا الخلاف أهل البدع الذين خالفوا طريق الحق، فلا يعمم الكلام ولا يقال: إن كل الاتجاهات الإسلامية بما أنها تفرقت إذاً هي على ضلال أو أنها كلها متفرقة، متحزبة، بل يتحمل وزر ذلك من تحزبوا واجتمعوا على خلاف المنهج الحق، وخالفوا سبيل الحق الواحد، فالواجب ألا يلام أهل السنة على التزامهم بالسنة، ولا يجوز أن يعدوا على أنهم فرقة من الفرق المنحرفة، فهم فرقة من الفرق الكثيرة المنتسبة للأمة لكنها الفرقة الناجية، فالرسول عليه الصلاة والسلام عدها كذلك لما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، ففرقة واحدة فقط من الثلاثة والسبعين هي الناجية ولا ينجو غيرها، لذلك لا يصح أن يقال: إن الاتجاهات الإسلامية كلها خطأ؛ لأنها متفرقة، أو كلها متحزبة التحزب المذموم.
إن الاجتماع على الحق ليس تحزباً مذموماً، والعصبية للحق ليست عصبية جاهلية، ونعني بالتعصب أن نكون عصابة شرعية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي على الحق ظاهرين)، فلا بد أن نكون عصابة على الحق، أو طائفة مجتمعة على الحق، من أجل ذلك نقول: على أهل السنة في كل قطر من الأقطار بل في كل مكان أن يكونوا كلهم في الأرض كلها جماعة واحدة، وأن يكونوا معاً في هذه السبيل؛ لأن أصل أمر الخلافة أن الأمة كلها تكون على طريق الحق، وأن تكون تحت قيادة الخليفة، فإذا عجز الناس عن ذلك فأقل شيء أن يكونوا في كل بلد قادرين على التعاون، وأن يكونوا معاً على هذه السبيل، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أمة واحدة وطائفة واحدة، متعاونين على البر والتقوى كما أمرهم الله.
فما بال كثير من الناس اليوم يحبذ التفرقة، ويدعو الناس إلى أن يكون لكل منهم جزيرة مستقلة بزعم أن الاجتماع عصبية وحزبية، هذا كلام باطل وخلط للأمور بلا شك، إذ إن الذي يتحمل وزر الاختلاف المذموم هم من خالفوا الحق وليس من اجتمعوا وتعاونوا عليه، ومن أخطر المسائل التي يكثر فيها الكلام أن بعض الناس -كما أسلفنا- يظنون أن مجرد الاجتماع نفسه مذموم، وهذا من أجهل الجهل، وأعظم الباطل، ولا ينسب أبداً لعالم يفقه دين الله عز وجل ويعلم الواجبات الملقاة على الأمة الإسلامية.
وما زلنا نجد كثيراً من الناس اليوم يحبذ التفرقة، وهو يعلم ما عليه المسلمون من تضييع الواجبات العينية والكفائية، ولا شك في عجز الأفراد عن القيام بهذه الواجبات مع تباعدهم وتفرقهم وعدم انتظامهم في سلك واحد، ولا تقوم دعوة من الدعوات -ولا يعلم في سنة الله الكونية ولا الشرعية أن دعوةً قامت- بغير تعاون ووحدة وائتلاف، اليوم يجتمع الناس في كل المجالات لتقوى شوكتهم، والضعيف يؤكل، والمنفرد يؤكل، هذه سنة كونية في كل المجالات كما أنها سنة شرعية، فالله أمرنا بالاجتماع على طاعته، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فلم يأمرنا فقط أن نفعل البر والتقوى، وإنما قال: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))، فالتعاون على البر والتقوى في نظر أن يعمل أو يترك وقتما يريد وأن هذا هو الأمر الذي أمر الله عز وجل به، لكن بلا شك أن أحسن لفظ يمكن أن يعبر به عن الاجتماع على طاعة الله هو ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))، لكن ليس معنى ذلك أن الأمر متروك لإرادة الناس، فالتعاون معناه: أن يعملوا مجتمعين يجمعهم أمر واحد، وكلمة واحدة ولا يتحقق ذلك مع تباعد الآراء، واختلاف الأمور، بل لا بد أن يكون مرجعهم إلى أولي الأمر منهم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
فأولي الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فمن كان من الأمراء يقود الناس بكتاب الله وجب أن يكون الناس معه؛ ليقوموا بواجبات الشرع التي افترضها الله على الأمة الإسلامية كأمة، وعند غياب الأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله يرجع الناس إلى علمائهم، ويلزم هؤلاء أن ينتدبوا واحداً منهم يرجعون إلى أمره، أو يجتمعون بأي طريقة كانت، وإلا ترتب على ذلك أعظم الفتن والمفاسد، وكيف يتسنى لأهل المنهج الحق أن يتفرقوا ويكون غيرهم أحرص على الاجتماع منهم؟! نسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين.
فوحدة المنهج والطريق ووحدة العمل بالتعاون على البر والتقوى كلاهما أمر لازم ومطلوب لكل من سار على طريق النبي عليه الصلاة والسلام، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]، سبيل موحدة، وقد ذكرنا أن اختلاف النوازع والقدرات، والتنوع في الهمم أمر يثري العمل ولا يفرقه؛ لأن كل إنسان إذا كان سائراً في سكة داخل الطريق الواحد، فإن كلاً منهم يتقن باباً ويسير عليه، ولا شك أن هناك قدراً من الاختلاف داخل هذا الطريق الواحد، بمعنى أن فرداً قد يختار أمراً معيناً داخل الطريق الواحد، كما وسع الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في مسائل واتفقوا على إقرار كل فريق للآخر على عمله، اتفاقاً منهم على أن هناك من أنواع الاختلاف ما يسوغ، ولذلك فإن مرد الأمر في هذا إلى ما وسعهم رضي الله عنهم، فما وسعهم يسعنا، وما لم يسعهم لا يسعنا، فما عدوا فيه المخالف ضالاً مبتدعاً يجب علينا أن نعده كذلك، وما رأوا فيه أن هذا مما يسوغ فيه الاختلاف؛ لعدم ورود النص فيه، ولعدم حصول الإجماع ولا الخلاف الجلي؛ فإن ذلك يجعله أمراً واسعاً عندهم، وهذا الأمر هو الذي صفت به القلوب رغم وجود قدر من الاختلاف.
فأنواع الاختلاف منها اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والانتفاع به، واختلاف التضاد السائغ الذي لا يصادم نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً، وهذا لا يعني تنافي وحدة السبيل، وهذا النوع من الاختلاف يجب احتماله، وأما اختلاف التضاد غير السائغ، وهو ما صادم النص من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس الجلي فهذا يجب محاربته، ويجب عدم قبوله ولا يسعنا، كالخلاف مع أهل البدع والضلال كالرافضة والخوارج والمعتزلة والصوفية وأمثالهم، فلذلك نقول: إن هذا الأمر يجب أن نفقهه جيداً؛ لنسير على السبيل الواحدة التي هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.