من وسائل علاج التعصب: قبول الحق مهما كان مصدره

ولا يتحقق هذا العلاج إلا بتعميق الولاء على الكتاب والسنة، وأن الأتباع إنما يعملون لنصرة الإسلام، وهذا هو الأمر المهم وليس نصرة الجماعة، بل إن الجماعة وسيلة إلى نصرة الإسلام، وهذا أمر عظيم الأهمية في التربية.

وأنه لا بد من قبول الحق والمعاونة عليه ممن جاء به وعمله كائناً من كان - فأي مسلم يقول الحق لابد أن نساعده، وكذا لو عمل به لا بد أن نساعده- ولا بد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد أسمائها، فقد نجد البعض يرفض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده فعلته أو تفعله فلو أقيمت مثلاً رحلة أو اعتكاف في غير رمضان، تجد من يحتج قائلاً: لقد أصبحتم إخواناً، ولو أنا رتبنا جدولاً للخطابة تجد الرد ذاته من بعض السلفيين، فهل مجرد عمل الإخوان لعمل ما يجعل هذا العمل غير مقبول، لا بل لا بد أن نزن الأمر بميزان الشرع ونبحث في هذا الأمر: هل هو بدعة أم أنه طاعة؟ وهكذا.

ومن العجيب أنه لو ذكر أناس بخير ينتمي إلى جماعة أخرى كـ سيد قطب أو محمد قطب -رغم أن لنا مآخذ عليهما ونبين أخطاءهما المخالفة لمنهج أهل السنة- لقاموا بالرد وشنعوا عليه وعدوه ضمن الطوائف المنحرفة، وهو خطأ بالتأكيد إذ لا بد أن نزن بميزان الشرع ونقبل به ولو كان من شيطان، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صدقك وهو كذوب)؟ وقبل أن أبا هريرة يقول للأمة كلها أن تقرأ آية الكرسي عند النوم مع أن بداية تعلمها كان من هذا الشيطان لـ أبي هريرة، وما كان أبو هريرة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، وهذا كله بعد عرضه على السنة وعلى هذا فأي أحدٍ قال كلام حق لزمنا قبوله وإن كان القائل كذاباً، فمناقشة الأقوال والحكم عليها بالصواب والخطأ وإصابة السنة أو مخالفتها أمر غير مستنكر ولا خلاف منهج أهل السنة، فالحق أن منهج أهل السنة التوازن، فلابد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد الأسماء، وقد يرفض البعض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً؛ لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده هي التي قامت به، فالدليل عنده وجوب مخالفتهم.

على سبيل المثال: من المعروف أن جماعة الإخوان تهتم بالتواجد في الهيئات والأنظمة كالنقابات واتحادات الطلاب ونحوها، وجماعة التبليغ تهتم بالخروج للناس لدعوتهم، فلا يجوز أن ينكر البعض هذا التواجد أو هذا الخروج لمجرد أننا إذا فعلنا ذلك صرنا مثلهم، فأنا لا أخالف التبليغ؛ لأنه يخرج إلى الناس، بل أخالفه لأنه يخطئ فيما يقول، وأخالفه لأنه يحصر الإسلام في شيء معين ويحصر نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله في باب معين، وأخالفه لأنه يهمل قضايا عظيمة جداً كقضايا التوحيد والإيمان ولا يتكلم فيها لا أولاً ولا آخراً بل لا يربى على التوحيد، فهو يهمل قضاياه دائماً، فتجده يمنعك من الكلام في الشرك والبدع وأمراض الأمة، أو العقيدة، أو الحلال والحرام، أو السياسية، أو الولاء والبراء، بل لا يكلم الناس إلا فيما تضمنه كتاب رياض الصالحين أو حياة الصحابة أما غير ذلك فلا يكلم الناس فيه، وبالتالي يتربى الناس على أن المنكرات هي ما قالها هؤلاء، ثم الأجيال اللاحقة تأتي فإذا وجد فيهم من يدعو غير الله يتركه بحجة أنه تعود على ذلك، ويمنع الآخرين من التحدث في هذا الموضوع فأول شيء يطلبه من المدعوين أن يصفوا قلوبهم ويخرجوا معهم، وقد يكون من يخرج معهم لا يعرف أن الطواف بالقبر شرك ولا أن دعاء غير الله وطلب المدد منه أمر منكر، فلا تجده ينكر مثل هذه الأمور، وهكذا أيضاً في الاتجاهات الأخرى فدخول النقابات والاتحادات الطلابية ونحو ذلك ليست مشكلةً بحد ذاتها بل فيما يرافق ذلك من مخالفات شرعية كتضييع الولاء والبراء، والإقرار بموازين الباطل وشعاراته، واستباحة كثير من المنكرات وإباحتها للناس، وعمل أعمال فيها معاونة على المنكر والعياذ بالله.

وقد يسأل البعض: كيف لا ينتقد خروج التبليغ مع أنه بدعة؟ فنقول: إذا كان المرء يتعبد الله بإلزام نفسه أن يخرج ثلاثة أيام أو أربعين يوماً أو سنة فهذا بدعة، لكن لو فرغ شخص نفسه ثلاثة أيام أو يومين لإلقاء دروس معينة، أو فرغ نفسه ثلاثة أيام في الشهر وهي الأيام التي يستطيع الاستئذان فيها من عمله، أو الخميس والجمعة كونهما عطلة فهذا الأمر ليس بدعة.

على أن جماعة التبليغ لديهم أخطاء كبيرة بإهمال قضايا التوحيد والإيمان والعلم، والاتباع، فلا يعملون على إنكار البدع والشركيات، كما يهملون قضايا الحكم والولاء والبراء وأصول العقائد، وهذا خطر عظيم فأصل الجماعة أنها كانت صوفية، فهذا الأمر بالنسبة إليهم ليس ذا خطورة بالغة، ومع ذلك فلهم بعض الإيجابيات، وكذلك الإخوان لديهم بعض الإيجابيات، فكثير من الشباب يبدأ حياة الالتزام على يد أحد هذه الطوائف ثم الله عز وجل يهديه إذا أراد الحق إلى المنهج الصحيح.

فينبغي أن يكون عملنا منضبطاً بالشرع، بعيداً عن البدع، وفي نفس الوقت لا ينبغي أن نهدم الخير لوجود دخن فيه، بل نعرف المعروف وننكر المنكر والدخن، ونعين على الحق ولا نعين على سواه، هذه حقيقة الولاء على الكتاب والسنة، ولهذا كان موقفنا كدعوة سلفية في مثل هذه المسائل: أن ما استطعنا أن نقوم به بالصبغة الشرعية قمنا به، وطلبنا من غيرنا أن يعيننا عليه وأن ينضبط في عمله بالشرع، وما عجزنا عنه وقام به غيرنا على بعض الدخن أيدناه على الخير ونصحناه بترك الدخن؛ لأن البديل في حالة تركه أو عجزه عن هذا الخير هو الشر المحض من الدعاة على أبواب جهنم وأتباعهم، وهذا أمر ملحوظ وظاهر.

فلو قلنا مثلاً: لو أنهم يستطيعون خوض انتخابات اتحاد الطلاب فسيترتب على ذلك بعض الخير وفيه دخن، على أن البديل أن ينظم الناس حفلات رقص ورحلات مختلطة وغير ذلك من الفساد، مع العلم أن فوزهم غير ممكن ولو أمكن فسنساعدهم على مثل ذلك ولاءً لله عز وجل وللرسول عليه الصلاة والسلام.

ومثل ما تقدم نتعاون على الطاعات.

قضية الاسم لا تمثل عندنا خطراً أو أثراً ذا بال، فلا بأس من التنازل عنه طالما كان المضمون حقاً، هذا إذا كان الاسم يمثل عائقاً عن وصول الحق للناس.

كما لو ظللت تردد في كل مكان: أنا سلفي أنا سلفي فسينفض عنك الناس نحو الآخرين، ولذا كانت تكتب رسائل باسم محمد بن سليمان التميمي لأن اسم محمد بن عبد الوهاب يجعل الناس يرفضون الحق في بلاد كثيرة جداً وسبب الرفض هو معرفتهم أن هذا هو رأس الوهابية؛ لأن الوهابية عندهم مسبة أو خوارج أو كفار أو نحو ذلك، فإذا استعمل هذا الاسم البديل لم تعد لدى الناس مشكلة في قراءة رسائله.

كما لو سأل أحدهم: هل أنت وهابي؟ وإذا كان الانتساب للسلف تهمة أخرى فقل لهم: أنا مسلم.

لكن لابد أن نعلم ويعلم غيرنا أن اختلاف الأسماء ليس هو السبب الأساسي للاختلاف، حتى يظن أن الواجب هو ترك الأسماء، وإذا تركت انتهت المشكلات، فهذا وهم كبير أدى بكثير إلى ترك التعاون الواجب إلى ما بعد التخلي عن الأسماء.

إذاً: فإنه كما بينا لا يحرم التسمي بالأسماء الطيبة التي تدل على الخير وتحض عليه وليست هذه الأسماء بديلاً عن اسم الإسلام، بل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فلم يجعل لنا التسمي بالمذاهب أو بالعلماء أو بالجماعات بديلاً عن اسم الإسلام؛ لأن هذا يكون كفراً، بل كل اسم هو داخل اسم الإسلام وليس بديلاً عنه، إنما هو لتمييز معنى معين، وتنبيه الناس إلى ما غفلوا عنه، كما تميز أهل السنة والجماعة بهذا الاسم للتحذير من البدعة والافتراق المذموم، فكلمة أهل السنة ضد البدعة، والجماعة ضد الفرقة، وهكذا اسم السلفية أو أهل الحديث أو أي اسم آخر لجماعات أهل السنة في أقطار مختلفة إنما يكون المقصود منه تمييز المنهج، وترسيخ مبادئه، أو التنبيه إلى بعض ما غفل الناس عنه من هذه المذاهب، وعلى كل يبقى ولاؤنا على الإسلام، وطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].

يقول: المدح والذم والحب والبغض يكون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة، سواء كانت قولاً أو عملاً قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

وقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

قال الإمام ابن القيم في فوائد صلح الحديبية: إن من طلب الإعانة على حق أجيب إليه ولو كان لا يجاب إلى غيره من الباطل.

هذا عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها).

ولهذا من أصعب المواضع على النفوس أن تعظم الحرمات ولو كان الذي يطلبها كافراً، فتعظيم الحرمات يجب التعاون عليه وإن كان المتعاون معه كافر وإن منع غيره مما ليس من الحق.

فإدراك وجود الاختلاف غير السائغ له أهمية كبيرة، فكما لم ينتبه فريق من أبناء الصحوة إلى وجود الخلاف السائغ فغلا في كل مسائل الخلاف، وجعلها مكائد وعداء وحب وبغض آخر إلى وجود الاختلاف غير السائغ، فقصر تقصيراً خطيراً في غمار حماسته الجارفة نحو التوحد والاجتماع.

فتجده يردد منبهاً على ضرورة الاجتماع: إن وحدة المسلمين فرض، وقد يبدي استعداداً على أن يضيع في سبيلها العقيدة الصحيحة أو الواجبات الشرعية.

يقول: حتى صارت كل الفرق المنتسبة للإسلام عنده حتى ولو كانت من شر أهل البدع كالروافض والصوفية مثلاً مقبولة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015