ليس من الخلاف السائغ بين الفقهاء أن تصادم السنة بآراء الرجال، فلا يجوز لأحد من العلماء أبداً أن يقول: إن قوله أو قول غيره يقابل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن ترد السنة من أجله.
وقد تكون المسألة اجتهادية وفيها جملة من الأدلة التي تختلف طرق الجمع بينها وليس واحداً من الأدلة قاطعاً على غيره، فتكون المسألة بهذا الضابط من مسائل الخلاف السائغ، وأما إذا استبانت السنة للإنسان فلا يجوز له أن يعارضها بأقوال العلماء، وهذا المرض حدث عند المتأخرين، فتصل السنة إلى بعضهم ولم يصله الدليل المخالف لها، فيأخذ برأي لا يعرف دليله ولا وجهه مع معرفته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم في هذه المسألة بحكم معين، وقد يكون في المسألة حديث آخر لكنه لا يعرفه ولم يصله، فمثل هذا الفعل لا يجوز.
فبعضهم يعارض السنة ويقول لك: إن إمامي أو شيخي لم يعمل بهذا الحديث، فيرده أو يؤوله أو يقول: هذا ضعيف، فيخالف السنة، زاعماً أن المسألة فيها خلاف بين العلماء.
قال الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، هذا إجماع على أن من وصلته سنة لا يجوز له أن يدع السنة؛ لذلك عندما نتكلم عن مسألة الاجتهاد والتقليد واتباع المذاهب نقول: لا يلزم اتباع المذاهب أولاً، يعني: أن المسلم لا يلزم في عصر من العصور بمذهب لم يكن لازماً على المسلمين طوال الثلاثة القرون الخيرية؛ فهذا أمر بلا شك محدث، والقول بإلزام كل عالم أو عامي أو طالب علم أن يلتزم مذهباً واحداً لا يخالفه ولا يفارقه لم يكن معروفاً مدة ثلاثة قرون في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، إنما حدث هذا الإلزام بعد هذه العصور، وكان بلا شك في العصور الأولى تأثر بالصحابي المعين، فلا شك أن ابن مسعود كان له أصحاب، وابن عباس كان له أصحاب، وابن عمر كان له أصحاب، ولا شك أن كل تلميذ تأثر بأستاذه، لكن لم يكن أحد يلزم أحداً ألا يأخذ علماً عن غير إمامه وصاحبه، بل كان كل تلميذ منهم يأخذ عن شيخه أكثر علمه، ويأخذ عن غيره، وإذا وضح له الحق لم يكن يرده لقول أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما يرد القول المخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن هنا نقول: يجوز أن يتمذهب الإنسان، ولا يلزم ذلك، والقول بإلزام الناس بمذهب معين وتحريم الخروج عليه بدعة مُحدثة، فلم يقل أحد: يجب أن يتبع ابن عباس أو يجب أن يتبع ابن مسعود أو يجب أن يتبع عمر أو يجب أن يتبع أبو بكر في كل أقواله.
وأيضاً الإيجاب حكم شرعي والذي يوجب هو سبحانه وتعالى.
والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله ويخبر أن هذا واجب أوجبه الله.
فالتقليد سائغ وليس بلازم بشرط أنه إذا استبانت له السنة ترك المذهب وترك الإمام وترك قول كل أحد للإجماع المنعقد على ذلك كما نقله الشافعي رحمه الله.
وهل يجوز لإمام المسلمين أن يلزم الناس بمذهب معين أو قول معين؟
صلى الله عليه وسلم لا يجوز للإمام أن يلزم جميع الناس بمذهب معين، ويعاقب من يخالفه أو يأمر المحتسبين أن يعاقبوا من يخالفهم، والمسألة فيها خلاف سائغ، لكن لو كان فيه فتنة فهذا محتمل من أجل منع الفتنة.
وقول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، المقصود بالأمور الاختيارية، أي: بين أمرين مستحبين أو مباحين، وليس بين واجب ومحرم، أو بين واجب ومباح، أو بين محرم ومباح، فلا بد أن يكون كلا الأمرين جائز.
سأل رجل الشافعي عن مسألة فأجابه فيها بحديث، فقال له: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فقال: أتراني خرجت من الكنيسة؟! أتراني أشد على وسطي زناراً؟! والزنار حبل يلبسه القساوسة في وسطهم -أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟! نعم على العين والرأس.
فالإمام الشافعي رحمه الله أنكر جداً على هذا الرجل، وقال: أشهدكم أني إذا رويت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت بخلافه أنه قد ذهب عقلي.
وهذا دليل على أن الأمر عندهم أمر قطعي، فلا يجوز لأحد أبداً أن تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لك: قال فلان أو هذا رأي آخر.
سئل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن مسألة فأجاب فيها ثم قال للسائل: ائت ابن مسعود فسله فسوف يوافقني، فقال ابن مسعود: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين إن وافقته، وما قال لهم: أبو موسى ضال، قال: ولكن أقول بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث.
إذاً: أئمة الهدى والعلم لا يرون لأحد حجة في خلاف ما علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد تكون المسألة اجتهادية في حق عالم لعدم علمه بالسنة فيجتهد فيها، ويكون من تبعه على اجتهاده غير معذور إذا كان قد علم بالسنة واستبانت له، فـ ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بالمتعة في الحج وقال لـ عروة: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فقال له عروة بن الزبير: كان أبو بكر وعمر ينهيان عن هذا، فقال له عبد الله بن عباس: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال: أبو بكر وعمر!!).
لماذا قال لـ عروة: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؟ الجواب: من أجل أنه عارض أمر رسول الله بأن أبا بكر وعمر كانا ينهيان عن المتعة حتى ولو قال عروة: أبو بكر وعمر أعلم برسول الله منك، فهذا كلام صحيح، لكن هذا ليس بحجة، من أجل ذلك غلظ عليه ابن عباس رضي الله عنه، وتخوف من نزول حجارة من السماء، والآن كل المقلدين يقولون: هل أنت أعلم من الشافعي؟ هل أنت أعلم من أبي حنيفة؟ أنا لست أعلم منهم قطعاً، لكن عندنا حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كذا، فلا نتركه لهذه الشبهة.
من استبانت له السنة وخالفها غير معذور؛ لأنه في هذه الحالة خالف الإجماع بعد مخالفته لأدلة الكتاب والسنة بوجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعرفة خلاف الفقهاء أمر مهم؛ لأن كثيراً من طلاب العلم وأبناء الصحوة الإسلامية لا ينتبهون لوجود هذا النوع من الاختلاف، ويظنون أن كل مسائل الاختلاف بين العلماء مما يعادا فيه ولأجله ويبغض المخالف له، وهذا يوجد من أسباب الفساد والتعادي ما لا يعلمه إلا الله، فينبغي إدراك وجود هذا النوع من الاختلاف، وعدم إمكانية إزالته، وأن له أسباباً لن تزول، فالأدلة منها ما هو قطعي وما هو ظني، وخلاف الأفهام وارد، فالخلاف لا يمكن أن يزول بالكلية، ولن يكون جميع الناس في كل المسائل على قول واحد، وبعض الطلاب يظن أن دعوة بعض المشايخ للتصفية معناه: أنه لابد أن يكون لنا قول نجتمع عليه في كل مسألة، ونحارب من خالفه! كلا، ليس الأمر كذلك، بل نزيل منه ما يمكن إزالته، وهذا سيكون لطائفة معينة في زمن معين، ولن يكون في كل الأزمنة وفي كل المسائل ولكل الناس، فهذا لا يمكن إزالته بالكلية.
وإدراك وجود هذا النوع من الاختلاف يوسع صدور المسلمين لاحتماله، وليكن شعارنا في ذلك: يسعنا ما وسع السلف الصالح، ولا يسعنا ما لم يسعهم، فيعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، مما اختلف فيه السلف من قبلنا، وليس في كل خلاف.
بقيت المودة والألفة بين السلف مع وجود الاختلاف بينهم، فليكن هذا حالنا أيضاً، ولنرفق بالمخالف لنا، ولا يزيد إنكارنا على مجرد المذاكرة العلمية وبيان الأدلة التي نرى رجحانها، ولا نسمح للشيطان بإلقاء جذور العداوة عبر الاتهامات بالجهل أو الضلال أو الانحراف عن منهج السنة وطريق السلف، وليكن حوارنا هادئاً نلتزم فيه بما أدبنا به العلماء، وكما نعرفه من طرقهم في البحث والمناظرة والرد الرفيق على المخالف، ليكن هذا الحوار هو الأسلوب الذي ينتهجه أبناء الصحوة في خلافاتهم حول المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف والاجتهاد، وليبذل كل منا جهده في معرفة الحق والعمل به، وليعذر الآخرين، وليدع للجميع بالتوفيق لما يحبه الله ويرضاه والقبول عنده سبحانه وتعالى.