بيان حقيقة القول بأن اختلاف الأمة رحمة

يتعلق بالمسألة السابقة مسألة اشتهر الكلام فيها وهي: أن اختلاف الأمة رحمة، فظن كثير من الناس أن سبب ذلك أن فيه توسعة على الناس، فإذا ضاق مذهب على الناس وجدوا سعة في العمل بغيره، وقد قلنا: إن هذا أمر لا يسوغ ولا يجوز باتفاق العلماء، وإن الخلاف ليس بحجة لا للعالم ولا لطالب العلم ولا للعامي، حتى أن العامي عليه أن يجتهد في اختيار الأوثق في نفسه من أهل العلم فيقلده، وعلى طالب العلم القادر على الترجيح والنظر في الأدلة أن يختار من أقوال العلماء ما ترجح لديه، وعلى العالم أن يجتهد في استنباط الحكم الشرعي.

إذاً: فما معنى هذا القول؟ وما حقيقة هذه المسألة؟

صلى الله عليه وسلم نقل غير واحد من العلماء عن بعض السلف قولهم: الاختلاف رحمة ومنهم: عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد حيث قال: لقد نفع الله الأمة باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله.

وقد جاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختلاف أمتي رحمة)، وهو لا يصح سنداً ولا متناً، بل هو منكر متناً وضعيف سنداً، وإنما هو كلام لبعض السلف، وليس معنى ذلك عندهم أن الاختلاف نفسه رحمة، بل الكتاب والسنة يذمان الاختلاف كما سبق في الجملة، والمراد بالاختلاف الذي هو رحمة نوع خاص، ولم يرد أن الخلاف نفسه رحمة، فقد قال ابن مسعود: الخلاف شر، والمقصود عند هؤلاء السلف الذين قالوا: إن الاختلاف رحمة، أن أصحاب هذا الاختلاف مرحومون، وليس أن الاختلاف ذاته مطلوب، ولا أنه في ذاته هو الرحمة، وإنما أصحابه مرحومون، بمعنى: أن من اجتهد في الوصول للحق، ولم يقصر فقد أدى ما عليه، فإن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران كما دل عليه الحديث الصحيح كما سبق، ودل عليه القرآن بالثناء على داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام مع تصويب سليمان، فليس الاختلاف نفسه رحمة أو أنه مطلوب شرعاً، بل إن استطعنا أن نعدم هذا الخلاف وننهيه فهو الأفضل، وحتى الخلاف السائغ إن استطعنا أن نلغيه بأن نتناظر ونتناقش في جو من الود والمحبة إلى أن نصل إلى قول واحد فهذا أفضل وأحسن؛ لأن اجتماع الناس على قول واحد أفضل لهم من الاختلاف، لكن المعنى كما ذكرنا هو أن أصحاب هذا الاختلاف لا يعذبون طالما أنهم بذلوا وسعهم في معرفة الحق كل حسب علمه وقدرته، والحق واحد لا يتعدد، ووجود هذا النوع من الاختلاف له حكمة كونية لا حكمة شرعية، وأسباب الاختلاف تعود إلى اختلاف الأفهام والقدرات وطرق التعليم في بداية النشأة، وهذه أمور قدرية فالمطلوب شرعاً الاتفاق ما أمكن، والبحث عن الحق قدر الطاقة، وبالتالي فأصحاب هذا النوع من الاختلاف مرحومون.

إذاً: الإنسان المجتهد أو العامي إذا قلد الأوثق من أهل العلم في نظره فلا يظن أنه على خطر وعلى شفا هلكة إن ظهر أن هذا القول خطأ أو كان هذا القول في حقيقته عند الله خطأ، بل طالما قد عمل به بعض السلف من الأئمة المعتبرين فهو مرحوم ومأجور أجراً واحداً أو أجران، فكان هذا الخلاف من هذه الحيثية رحمة، وليس أن الخلاف ذاته رحمة ولا أنه مطلوب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015