إننا عندما نقول: إن هذا خلاف سائغ، بالتالي لا ينكر على المخالف فيه، ولكن لابد أن يكون منضبطاً بالقواعد حتى أقصى درجات الإنكار، والتي منها النصح والمناظرة على حسب درجته في العلم، وذلك حتى لا تدخل عنده هذه القضية في قضية البغض في الله، والمعاداة في الله رغم اتفاق السلف على خلاف ظنه.
فهذه القضية لن توصلنا إلى التعالي، ولن توصلنا إلى أن يبغض بعضنا بعضاً.
وسنذكر أمثلة في الخلاف السائغ في المسائل الاعتقادية والمسائل العملية التي لا تجعلنا نفترق ويبدع بعضنا بعضاً، وبالتالي لا نصل إلى المعاداة في ذلك.
فالقضايا التي تدخل في البغض في الله والمعاداة في الله هي قضايا الخلاف غير السائغ، وذلك مثل قضايا الكفر والردة التي هي في الحقيقة جزء من قضايا الخلاف غير السائغ.
فمثلاً: نحن خلافنا مع اليهود والنصارى خلاف غير سائغ، ومن أجل ذلك نبغضهم في الله عز وجل.
والأدلة الظنية هي التي تحتمل عدة وجوه في الفهم وبعضها أظهر من بعض، وهناك أدلة تحتمل عدة وجوه في الجمع بينها، من أجل هذا نقول له: ليس هناك دليل قاطع في المسألة، فعندنا عدة أدلة تحتمل أن هذا منسوخ بهذا وأن هذا مخصص بهذا.
فمحتمل أن يكون هذا الدليل ناسخاً وهذا منسوخاً، ويحتمل أن يكون هذا خاصاً وهذا عاماً وهذا مطلقاً وهذا مقيداً، وهكذا.
فإن قيل: لماذا لا يمكن توحيد الأمة على قول واحد؟ قلنا: لاختلاف الأفهام، ومعرفة أنه لا سبيل لإزالة أسباب الخلاف، وهذا يجعلنا لا نحاول السير في طريق يتمناه البعض؛ لقلة فهمه لهذه المسائل، ولقراءته لواحد من أهل العلم أو تلقيه منه دون غيره، فهو يتمنى توحيد الأمة في كل المسائل على قول واحد.
فيقولون: نريد أن نوحد الأمة ككل.
والبعض يتهم السلفيين بذلك، مثل يوسف القرضاوي صاحب كتاب الفقه بين أهل الحديث وأهل الرأي، فإنه يقول: يُتهم السلفيون أنهم أصحاب مدرسة الرأي الواحد، فالذي يقول: إن السلفيين ليس عندهم غير رأي واحد، هذا يكون قد ظلم المنهج وظلم عموم السلفيين.
وقد يقول البعض ممن لا يدرك هذه المسألة: إن أي مسألة لا بد أن نصل فيها إلى حل.
ويقصد بالحل: قول واحد لا يحتمل غيره.
فالمسألة هذه صار فيها مفاصلة ومفارقة وحب وبغض بناءً على كل مسألة من المسائل التي يحققها بعض العلماء، بل بعض المسائل كتبت فيها مجلدات، فمثلاً: مسألة واحدة تكون مكتوبة في أكبر كتب الفقه في صفحتين أو ثلاث، والبعض يتحدث عنها في مجلد مثلاً! فنقول: هذا الكلام ليس بصحيح، والمنهج السلفي لا يدل على ذلك، فكيف تقول: إننا مدرسة الرأي الواحد، وإنه ممنوع عندنا تعدد الآراء والاجتهادات؟ هذا ليس بصحيح قطعاً.
فالسلف منذ أيام الصحابة متفقون على وجود عدة آراء في بعض المسائل التي حددنا حدها وتعريفها، وليس الكلام على إطلاقه؛ لأنه ليس كل مسألة تحتمل الاختلاف.
والخلاف السائغ الذي ضبطناه هو: ما لا يصادم نص الكتاب والسنة ولا نص الإجماع القديم ولا القياس الجلي، وهذا هو الذي نحن نقبل فيه الخلاف، وبالتالي فهذه المحاولة قد يتعمق فيها بعض المنتبهين من طلاب العلم حين يجدون كثيراً من العلماء -خاصة بعض المعاصرين- ينتصر لقول مضعفاً لما سواه، بل ربما لا يشير إلى الخلاف أصلاً فضلاً عن الإشارة إلى درجة الخلاف، وليس هو كالمتقدمين من السلف الذين يذكر أحدهم الآراء ويقول: وقال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، ويرجح بعد ذلك رأيه الذي ينتصر له، وذلك موجود في أي كتاب فقه مقارن أو كتاب فقهي مذهبي تعرض لآراء المذاهب الأخرى، مثل: المجموع للنووي والمغني لـ ابن قدامة ونيل الأوطار، فهم يذكرون الأقوال الموجودة في المسألة ثم يرجحون فيها ما يرونه موافقاً للشرع بحسب رأيهم.
وهذا بخلاف كثير من المعاصرين، فالرأي عند أحدهم رأي واحد، ولا يذكر الخلاف فضلاً عن أنه يشير إلى درجة الخلاف وأنه خلاف سائغ أو غير سائغ.