تقسيم الدين إلى فروع وأصول وما يبنى عليه

يقول: والحق أن هذا التقسيم ليس مرجعه إلى نوع المسألة علمية أو عملية، أصلية أو فرعية وإنما مرجعه إلى وجود النص، أو الإجماع، أو القياس الجلي, والتمكن من معرفته -لأنه قد يوجد نص لكن لا يتمكن من معرفته- لمن كان متمكناً من معرفة الحق فقصر في ذلك؛ فمن كان متمكناً من معرفة الحق فقصر في ذلك فهو آثم سواء كانت المسألة أصلية أو فرعية، اعتقادية أو عملية, وهذا غالب في مسائل الأصول الكبرى كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر والإيمان والكفر والوعد والوعيد، وموجود في كثير من مسائل الفقه والأحكام، لكن أغلب فروعها إما لا يوجد له الدليل القطعي أصلاً -قطعي اتفاقاً- أو ليس كل أحد متمكناً من معرفته، فالعاجز عن المعرفة بعد بذل الجهد ليس بآثم اتفاقاً.

أما أن يجعل التقسيم إلى أصول الدين وفروعه أصلاً في معاملة المخالف -أصول الدين التي هي المسائل الاعتقادية، والفروع هي المسائل العملية- حسب نوع المسألة المختلف فيها دون نظر إلى وجود الدليل القطعي فيها وتمكن هذا المخالف منه، فخطر عظيم مخالف لأئمة العلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول, وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع, وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم.

يعني: رغم أنهم فقهاء كبار، لكن هذا التقسيم الذي سيبنى عليه الموقف من المخالف هل نكفره أو نبدعه أو نعذره عندما جعلوا التقسيم الذي ليس عليه دليل هو الأصل فيكون هذا بدعة فعلاً.

يقول ابن تيمية: وهو تفريق متناقض؛ فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي عثمان أأفضل من علي أم علي أفضل؟ هذه كلها مسائل اعتقادية, وفي كثير من معاني القرآن, والراجح أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ليلة المعراج، بل رآه مرتين في المنام وفي المعراج, وأن عثمان أفضل من علي، فهم متفقون على أن عثمان الخليفة الثالث, ومن يطعن في خلافة عثمان ويقول: لم يكن ينبغي أن يكون خليفة، فهو أضل من حمار أهله، وهو ضال مبتدع يبدع عند أهل العلم في مسألة الخلافة, ولو فضل علياً على أبي بكر وعمر يبدع، لأن ذلك مجمع عليه بالنصوص؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون أبا بكر ثم عمر كما في البخاري ثم عثمان، وكذا لما سأل علياً رضي الله عنه ابنه محمد بن الحنفية: يا أبت! أي الناس أفضل بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر , قال: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.

ويقول علي رضي الله عنه لا يؤتى لي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد الفرية ثمانين.

من أجل هذا قلنا: من يفضل علياً على أبي بكر وعمر فهو مبتدع ضال يستحق العقاب، بخلاف ما لو فضله على عثمان فهي مسألة اجتهادية, والراجح أن عثمان أفضل, كما أنه مقدم في الخلافة, وذلك أن عبد الرحمن بن عوف وجدهم لا يعدلون بـ عثمان أحداً، وهذا دليل على فضل عثمان على علي رضي الله عنهما, لكن هذه المسألة لا يضلل فيها ولا يبدع.

يقول: وفي كثير من معاني القرآن وتصريح بعض الأحاديث هو من المسائل الاعتقادية العلمية.

يعني هذا الحديث هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وتفسير هذه الآية على هذا الوجه أم لا؟ وهذه الآية من الصفات أم لا؟ ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج, وتحريم الفواحش والخمر هي من المسائل العملية, والمنكر لها يكفر بالاتفاق.

إذاً: هذا الضابط غير سليم، لذا لو خالف أحد ما في مسألة عملية مجمع عليها فيها نص قاطع فهذه مخالفة ينكر عليه فيها؛ لأن الخلاف فيها ليس خلافاً سائغاً مع أنها مسألة عملية، لذلك تجد بعض من صنف من المعاصرين في مسائل الخلاف يقول: كل الخلاف بين الجماعات الإسلامية خلافات في الفروع، لكن عند البحث تجد اختلافات كثيرة ليست في الفروع, مثلاً: خلافنا مع جماعات التكفير ليس خلافاً في الفروع، حتى لو كان الخلاف في الفروع لكن عندنا فيه نص من كتاب أو سنة، وعليه فلا يجوز المخالفة فيه، وعليه فلا يجوز الخلاف يخالف في مسألة عملية انعقد الإجماع عليها عند السلف, فضلاً أنه من الممكن أن يكون الخلاف بين الجماعات الإسلامية ليس خلافاً فقط في مسائل الفروع، ولو كان فليس هذا هو الضابط الصحيح؛ لأنه قد يوجد خلاف في الفروع ويكون غير سائغ، وسوف نذكر أمثلة على هذا وذاك.

فإن قال قائل: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، يعني: هي من الفروع ودخلت في مسائل الأصول، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وإنما المسائل العلمية مسائل الاعتقاد، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية, ومن الممكن أن تكون المسألة فيها بينات لكنها لم تأت، والله سبحانه وتعالى إنما ذم من اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].

إذاً: لو أن البينات لم تأت الإنسان فلا حرج عليه، مثلاً: النبيذ المختلف فيه بين أهل العراق وبين بقية أهل العلم، وهو مسألة عصير غير العنب إذا أسكر كثيره هل يعد خمراً أم لا؟ فالإمام أبو حنيفة يراه لا يحرم وليس بخمر، ويجوز شرب القليل منه الذي لا يسكر، وجمهور أهل العلم يراه خمراً محرماً، فالمسألة هنا عملية, وعندنا فيها البينات، لكن بالنسبة للإمام أبي حنيفة لم تكن بينة؛ لأن الحديث لم يصله، فيقول: هذه المسألة إضافية.

وهذا الكلام لا شك فيه، فبالنسبة للبعض قد تكون قطعية, وللبعض الآخر قد تكون ظنية, وبعضها قد تكون مرجوحة أيضاً، ولكن هذا ليس على إطلاقه، إذ ما من أحد يقول: هذه المسألة لا يبنى عليها, أو يطعن في أي مسألة، فالكلام مبناه على أن الشخص نفسه يتبين لنا بقرائن الحال أنه لم تصله الأدلة القاطعة، وإلا فأي شخص يدعي أي كلام ويقول: هذه المسألة غير قطعية.

فهذا كلام في منتهى البطلان, ويؤدي إلى تمييع الدين بالكلية, وإلا فهو نفسه رحمه الله يكفر المخالف للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأننا نقطع بانتشار ووصول العلم لكل أحد، وكلمة بالضرورة، تعني: من غير بحث، بمعنى: أن العلم به منتشر بين الناس.

على سبيل المثال: بعض الناس من عدم فهمه يظن أن فهمه للنص قاطع, وهو لا يفهم معنى استعمال أهل العلم لهذه القواعد, وقد أبلغني أحد الإخوة أنه سمع من يقول: أما كلام ابن عباس في اختلاف المطالع فهو رأي فقهي في مقابلة النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو يريد أن يقول بأن هذه المسألة ليس فيها جدال، مع أن المسألة بلا شك لم تزل مسألة اجتهادية منذ قديم الزمن, ثُم أين النص في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهو فهم النص على أنه خطاب للأمة ككل، والصحابة فهموه على أنه خطاب لمن يسمعه من كل أهل بلد، فهذا ليس نص؛ لأن النص ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً لا تفسيرين، وهذا ليس من ألفاظ العموم فألفاظ العموم لها صور محددة، فلو قلت لمجموعة من الناس: افعلوا كذا.

فغيرهم يلتحق بهم من باب القياس عليهم، وليس هذا بلفظ عام، إنما اللفظ العام أن يقول: على المسلمين أن يصوموا كذا، لكن أن يقول: افعلوا كذا.

فهذا خطاب لمجموعة من الناس، وهذا الخطاب قد يكون خاصاً بهم, أو عاماً لهم ولغيرهم, أو فيهم معنى معين اختص بهم من أجله استقلوا بموجبه بهذا الحكم، وقد لا يكون في هذا المعنى وإنما الحكم عام، فهذا ليس من فعلهم أصلاً.

أنا اقصد: أن كلمة (ظني وقطعي) أمر إضافي ولكن ليس معناه إلغاء أمر الظنية والقطعية بالكلية، بل هذا حسب ورود الدليل، وحسب وصول الدليل للإنسان، وحسب درجة دلالة الكلام على المعنى؛ لأن الكلام له دلالات متفاوتة على المعنى، فهناك كلمة تدل على المعنى مائة في المائة، ولا يوجد لها احتمال آخر، وهناك كلمة تدل على معنى راجح ومعان أخرى مرجوحة, مثل دلالة الأمر على الوجوب، ودلالته على الاستحباب، فلو قلت مثلاً: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هذه دلالة ظاهرة في الوجوب؛ لأن هناك قرينة؟ قلنا: لا، هذا أمر مستحب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة)، وقال في آخر الحديث: (وقال في الثالثة: لمن شاء)، فلمن شاء تصرف الأمر للاستحباب.

فلفظ الأمر أرجح في الوجوب، لكن يمكن استعماله في الاستحباب، إذاً: الأمر ليس نصاً بالوجوب، ولكن الظاهر فيه الوجوب، فيجب أن أعمل به ما لم يكن هناك ما يخالفه، وقد توجد قرينة تصرفه؛ لأنه نص ولا يحتمل المعنى الثاني أصلاً، لكن لو وجد لفظ يحتمل معنيين أحدهما أرجح من الثاني، فهذا يسمى ظاهر في المعنى الراجح ومؤول، فلا بد لكي أحمله على المعنى المرجوح أو المؤول أن آتي له بدلالة ثانية.

وهناك دلالة إجمال: لفظ يدل على أكثر من معنى دلالة متساوية من جهة اللغة، فلكي أحمله على معنى آخر لابد أن آتي له بأدلة من خارج ا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015