فنتناول هنا مسألة الموقف من العلماء الذين قالوا ببعض البدع، أو بالأقوال الباطلة التي عددناها ضمن الخلاف غير السائغ نقول: لا شك أن أهل العلم وطلابه عند مطالعتهم لكثير من كتب بعض العلماء المتقدمين وفتاويهم يصطدمون بأقوال من التي سبق عدها في الخلاف غير السائغ، سواء كان ذلك في مسألة الاعتقاد، كمسألة التأويل في الأسماء والصفات، فإنه يقول بها خلائق من أهل العلم المنتسبين للأئمة الأربعة من المذاهب الفقهية، وللأشعري في كثير من المسائل الاعتقادية كالإمام النووي وابن حجر رحمهما الله، وكمسألة فناء النار ومخلوقات لا أول لها التي تنسب إلى ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وانتصر له ابن القيم في مصنفات عدة.
فانتصر لها في حادي الأرواح، وشفاء العليل وغير ذلك، ونسبة القول بفناء النار محتمل النسبة إلى شيخ الإسلام لأن ابن القيم في شفاء العليل قال: إنه سئل عنها، فقال: هذه مسألة عظيمة وفيها نزاع، لكن مخلوقات لا أول لها ظاهر كلام ابن تيمية بأنه يقول بها، ومعنى: مخلوقات لا أول لها أي: ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق بلا بداية في الأزل، مثلما نقول: مخلوقات لا آخر لها، مثل النار والجنة وأهلهما مخلوقات لا آخر لها، وما من نعيم إلا وبعده نعيم لأهل الجنة، وما من عذاب إلا وبعده عذاب لأهل النار بلا نهاية، فقال هو: وفي البداية وجد هذا، وخلاصة ذلك: أن جنس المخلوقات قديم وأنواعه حادثة، وهذا كلام باطل، نعم هناك حوادث لا أول لها، والصحيح فيها: أن أفعال الرب عز وجل تسمى حادثة وهي لا أول لها، فلم يزل الرب فعالاً لما يريد، فحمل كلام حوادث لا أول لها على المخلوقات يظهر من كلام شيخ الإسلام.
نقول: وفي المسائل الفقهية كالقول بجواز ربا الفضل، ونكاح المتعة، كلاهما ثابت عن ابن عباس، وعددنا ذلك من الخلاف غير السائغ، رغم وجود خلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه؛ لأن المسألة ثبت فيها حد الخلاف غير السائغ وهو وجود النص وليس الدليل فقط، وقلنا في هذا الحد: هو ما يخالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فهناك نص جلي في منتهى البيان بأن ربا الفضل يجري في أصناف ستة.
ويروى رجوع ابن عباس عنهما، وغير ذلك مما سبق، فكيف يعامل هؤلاء العلماء وإن قالوا بما ندين الله به أنه بدعة ضلالة أو خطأ وباطل قطعاً؟
و صلى الله عليه وسلم أن أهل السنة لا يتفقون على عدم ذم من اجتهد فأخطأ كائناً من كان خطؤه ممن هو معروف بالخير والصلاح كالصحابة رضي الله عنهم، والأئمة الأعلام كالأربعة، وأئمة أهل الحديث، ومن سار على نهجهم، ولهم في الأمة الذكر الجميل والثناء الحسن.
ولا يستوي عندهم من قضى عمره في العلم النافع والعمل الصالح، والدعوة إلى الحق، ونصرة السنة وأهلها، وبذل النفوس والأوقات والأموال في سبيل الله، وتحمل المشاق في سبيل الله، لا يستوي هؤلاء ومن قضى عمره في الصد عن سبيل الله، ومحاربة السنة ونشر البدعة والاجتهاد لنصرة الباطل.
مثلاً: هل نقول الجهم بن صفوان اجتهد فأخطأ؟ لا؛ لأنه عاش عمره مناصراً للبدعة وصاداً عن السنة، وكذا الجعد بن درهم وبشر المريسي، بخلاف من وقع في شيء من الأخطاء، فالإمام النووي يقول بالتأويل، لكن هل الإمام النووي عاش عمره ينصر قضية التأويل، وهي القضية الأساسية، وكان يبتدع في الدين، أم أنه عاش عمره مناصراً للسنة، خادماً لها مؤيداً، ساع في نصر الدين والدعوة إلى الحق؟ لا شك أن الثاني هو الصحيح.
أقول: لا يستوي هؤلاء العلماء ومن قضى عمره في الصد عن سبيل الله، ومحاربة السنة، ونشر البدعة، والاجتهاد في نصرة الباطل، والتعصب الممقوت عليه كـ الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وبشر المريسي وغيلان القدري، فهؤلاء عرفوا بالبدعة وكونهم من رءوسها ودعاتها، ولم يكن لهم في العلم حظ ونصيب، بل ما حصلوا منه ما يؤهلهم لكونهم طلاباً؛ لذا كان وقوعهم في البدعة من جراء تقصيرهم، ولما ناظرهم العلماء وبينوا لهم الحق كان الإعراض من شأنهم؛ بسبب ترؤسهم بغير استحقاق، وتصدرهم بغير تأهيل.
-فهم تصدروا بالفعل وصاروا رءوساً وصار لهم أتباع مثل: الخوارج- فكيف يستوون -أي: هؤلاء المبتدعون- مع من كانت جل أقوالهم وأعمالهم مطابقة للحق؟ فنقول في حق هؤلاء العلماء: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ولا يعني ذلك أن تصحح الأقوال الباطلة، أو نسكت عن البدع المخالفة للحق.
فمثلاً ابن القيم يقول في حق شيخه -وهو غير مباشر ولكنه شيخ له على مدى الزمن البعيد، ونقصد أنه متتلمذ على كتبه-: شيخ الإسلام حبيب إلى نفوسنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، والبعض يظن أن قصده بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والصواب أنه يقصد شيخ الإسلام الهروي، مع أن تسمية الهروي بشيخ الإسلام فيه نظر، والأقوال المنسوبة إليه من البدع فظيعة جداً، بل بعض الأقوال أقوال كفرية، فتسميته بشيخ الإسلام محل نظر، لكن هذا قول ابن القيم، وهو يحسن به الظن جداً.
نقول: فلا بد من النظرة المتوازنة التي ترى الحسنات والسيئات معاً، وتزن كل الأقوال بميزان الشريعة، وتزن أصحابها بما عندهم من الخير والشر معاً.
وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلاً عن أن يكفر.
مع أننا نجزم أن هناك فئة باغية، ومع ذلك لا يفسق ولا يبدع؛ لأنهم معروفون بالخير.
وقال أيضاً رحمه الله: وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع بكاء الحي.
وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب أهل قليب بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، وليس معنى ندائه أنه يطلب منهم قضاء الحاجة.
يقول: وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه.
والراجح في مسألة المعراج بيناه، وهل كان يقظة أو مناماً، أو أنه بالقلب، أم أنه بالبدن والروح معاً، وأما رؤية النبي لربه فهي مسألة خلافية من الخلاف السائغ أصلاً، والراجح أنه رآه بقلبه ولم يره بعينه.
يقول: ولبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة، وكان القاضي شريحاً ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ ويسخرون) ونحن نقرأ {بَلْ عَجِبْتَ} [الصافات:12]، لكن قراءة الجمهور قراءة ثابتة وسبعية، فقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إن شريح شاعر يعجبه كلامه، كان عبد الله بن مسعود أفقه منه وكان يقول: (بل عجبتُ)، فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
وشريح القاضي كان في زمن علي رضي الله عنه.
وكذلك أنكر بعض السلف حروفاً من القرآن -يعني: بعض حروف القرآن- مثل إنكار بعضهم قوله: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:31]، وقال إنما هي: أولم يتيقن الذين آمنوا.
وإنكار الآخر قراءة قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وقال إنما هي: ووصى ربك.
فهي لم تبلغه سماعاً، ووجدها في المصحف: (وقضى) فقال بل هي: ووصى، وتجده ربما يقول: خطأ من الناسخ، واحتمل عنده ذلك بسبب أن القرآن لم يتواتر، ونحن الآن نجزم بخطأ من قال: إنها خطأ من الناسخ، بل لو جاء أحد اليوم وقال: هذا خطأ من الناسخ يكفر؛ لأن هذا الأمر مجمع عليه وأن تقرأ: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23]، بل قراءة ووصى ربك فيها شذوذ؛ لأنها مخالفة لرسم المصحف.
يقول: وبعضهم -يقصد عبد الله بن مسعود - كان يحذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت -يقصد دعاء: (اهدني في من هديت) وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر.
من ينكر المعوذتين من القرآن الآن كافر، وعبد الله بن مسعود ثابت عنه أنه أنكرهما وقال: إنهما ليستا من القرآن، وربما يقال: كان يقصد الذي يكتب في المصاحف وإنما يتعوذ بهما، لكن هذا خطأ بالإجماع، وكذا لو زاد أحد سورة القنوت؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، ونحن قد نكفر المتأخرين في مسائل عذرنا فيها المتقدمين؛ لأنهم لم تبلغهم الحجة.
يقول: ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر، فها هو شريح ينكر صفة من صفات الله، ويجمع أهل العلم على إمامته فلا يبدع ولا يفسق ولا يكفر، وإنكار كتابة المعوذتين في المصحف ثابتة عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولا خلاف في عدالة الصحابة أجمعين، ولا يجرؤ على اتهام مثل ابن مسعود وابن عباس بشيء إلا ضال مجرم، رغم الجزم والقطع بخطأ القول المنسوب إليهم، بل قد يصل الأمر إلى ما هو أشد من ذلك فيمن ينكره اليوم؛ فإن من ينكر اليوم: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:31] أو {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] فإنه يكفر لتواتر النقل بها في هذه الأعصار، وصارت معلومة من الدين بالضرورة.
هذه أمثلة صارخة جداً تعتبر كفراً الآن، وهم قالوها ولم يكفروا، إذاً: الأولى أن نقول: إن هذا الإمام قال بهذه البدعة ولكنه ليس بمبتدع.
يقول: ومن هنا فإن موقفنا من العلماء أمثال النووي وابن حجر وغيرهما ممن قال بالتأويل هو موقفنا