لأنها أوثق من أبيات الشعر مجهولة القائل، بل أوثق ممن عرف قائلها؛ لأنها من ناحية الرواية وإن كانت أحادا إلا أن رواتها أكثر ثقة " (?). ويقول الأستاذ الدكتور عبده الراجحي:" وليس من شك في أن القراءات القرآنية تمثل منهجا في النقل لا يصل إلى وثاقته علم آخر مهما يكن حتى علم الحديث" (?).

ما سبق كان بيانا للتأثير المتبادل بين القراء والعربية بصفة عامة، أما مدى تأثير القراءة في المعجم العربي فيشكل ظاهرة لا يمكن انكارها، في المعاجم العربية من لدن العين للخليل، وحتى التاج للزبيدي. فمن أمثلة ما جاء في "العين":

(1) في (ع. ك. ف) يستشهد بالقراءة على مجيء أكثر من لغة في مضارع عكف حيث جاء بكسر الكاف وضمها، فقال: "عكف يعكف عَكفا وعُكُوفا: وهو إقبالك على الشيء لا تصرف عنه وجهك ... وقرئ: {يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (?) بكسر الكاف، و" يَعْكُُفُونَ "بضمها " (?).

(2) وفي (ط ل ع) تأتي القراءة كشاهد سماع يخالف القياس فيقول: "المَطْلَعُ: المَوْضِعُ الذي تَطْلُعُ عليه الشمس. والمَطْلَعُ: المصدرُ من طَلَعَ. ويقرأ: {مَطْلِعِ الْفَجْرِ} (?) وليس بقياس" (?).

(3) في (ع ب د) تأتي القراءة شاهدا على المعنى، يقول: "والعَبَدُ، بفتح العين والباء؛ الأَنَفَةُ والحمِيَّةُ من قول يُسْتَحْيَى منه ويُسْتَنْكَفُ. ومنه: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (?) أي: الآنفين من هذا القول. ويقرأ: "العَبِدِينَ "، مقصورة على: عَبَدَ، يَعْبُدُ. ويقال: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: كما أنه ليس للرحمن ولد فلست بأول من عبد الله من أهل مكة" (?).

(4) وفي (ب. د. ع) وفي مجال الاستدلال على أثر المعنى في الإعراب يقول: "ويقرأ: {بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (?)، بالنصب على جهة التعجب لما قال المشركون، بِدْعَاً ما قلتم، وبديعا ما اخترقتم. أي: عجيبا، فنصبه على التعجب والله أعلم بالصواب. ويقال: هو اسم من أسماء الله وهو البديع لا أحد قبله. وقراءة العامة الرفع، وهو أولى بالصواب" (?).

(5) وفي (ف ع ل) يذكر الفرق بين فتح الفاء وكسرها، وأن الفتح مصدر والكسر اسم، فيقول: "فَعَلَ يَفْعَلُ فَعْلاً وفِعْلاً، فالفَعْلُ: المصدر، والفِعْل: الاسم، والفَعالُ اسمٌ للفِعل الحسَن، مثل الجود والكرم ونحوه. ويقرأ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فَعْلَ الْخَيْرَاتِ} (?) بالنصب" (?).

وقد أثر (العين) بصفته المعجم الموسوعي الأول والرائد عند العرب، في جميع المعاجم التي ظهرت بعده، وإن اختلف هذا الأثر في كل منها. فتأثرت في الموضوعات اللغوية من تفسيرات، ولغات قبلية، ومعرب، ومولد، حتى إننا نجد كثيرا من عباراته بنصها في أكثر المعاجم المتأخرة. وتبنت جميعها أو معظمها الغرض الذي أراد أن يحققه، وهو جمع اللغة كلها: بواضحها، وغريبها، ولم يشذ عن ذلك إلا الجمهرة، وربما الصحاح، والأساس (?).

وعندما ألف الأزهري، أبو منصور: محمد بن أحمد (282 - 370هـ) معجمه "تهذيب اللغة " اعتنى فيه بالقراءات القرآنية عناية فاق فيها غيره من اللغويين. والسبب في ذلك هو ربط القرآن والدين باللغة، وسبب آخر أراه أهم وأكبر يتمثل في أن للمؤلف نفسه كتابا موضوعه: "معاني القراءات" وجه فيه للقراءات السبع، ومن الطبيعي أن هذا المخزون العلمي، يجد طريقه للظهور في "تهذيبه".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015