ولأن الدارس قد اتضح لديه أن معظم القراءات المستخدمة في دراسة اللغة من الشاذ، فقد رأى أن يوضح الموقف منها على صعيد الدراسات الدينية واللغوية. وجملة القول في هذه المسألة أنه قد تباين رأي المحققين من الفقهاء والقراء من ناحية، ورأي اللغويين من ناحية أخرى في موقفهم من القراءات الشاذة، فالمحققون من الفقهاء والقراء والأصوليين ينظرون إلى القراءة على أنها وسيلة تعبُّد، وطريق تقرُّب، وشرط لصحة الصلاة، ومصدر للتشريع والتحريم والتحليل. وهناك إلى جانبهم فريق اللغويين الذين نظروا إلى القراءة نظرة مغايرة؛ لأن هدفهم مختلف، وغايتهم من قبول القراءة ليست العبادة أو الصلاة بها، إنما هي مجرد إثبات حكم لغوي أو بلاغي؛ ولذا فقد وضعوا شرطًا واحدًا لصحة الاستدلال اللغوي بالقراءة، وهو صحة نقلها عن القارئ الثقة حتى ولو كان فردا، سواء رويت القراءة بطريق التواتر، أو الآحاد، وسواء كانت سبعية، أو عشرية، أو أكثر من ذلك. بل إن ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك بقوله: " وغرضنا منه – أي من كتاب المحتسب - أَنْ نُرِيَ وَجْهَ قُوَّةِ ما يُسَمَّى الآنَ شَاذاً، وأَنَّهُ ضَارِبٌ في صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِجِرَانِهِ، آخذٌ مِنْ سَمْتِ العربيةِ مُهْلَةَ مَيْدَانِهِ، لئلا يُرَى مُرَىً أَنَّ العُدُولَ عنه إنما هو غَضٌّ منه، أو تُهْمَةٌ له. ومعاذَ اللهِ! وكيف يكون هذا والرواية تَنْمِيهِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (?)؟. وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ، وأخذه: هو الأخذ به، فكيف يَسُوغُ مع ذلك أن ترفضه وتجتنبه. فإن قَصُرَ شيء منه عن بلوغه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلن يَقْصُرَ عن وَجْهٍ من الإعراب داع إلى الفسحة والإسهاب، إلا إننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع من يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه. نعم وأكثر ما فيه أن يكون غيره من المجتمع عندهم عليه أقوى منه إعرابا، وأنهض قياسا، إذ هما جميعا مرويان مسندان إلى السلف - رضي الله عنهم - فإن كان هذا قادحا فيه، ومانعا من الأخذ به، فليكونن ما ضَعُفَ إعرابه مما قرأ السبعة به