إلا أن الانتصار السريع في المجال العسكري لم يكن نهائياً، فقد كانت الجاهلية تخطط لجولة ثانية من الحرب، اتخذت من الفكر ميداناً لها، بعد أن أدرك قادتها قوة تأثر الأفكار على السلوك، وأن الحرب الفكرية هي السبيل الوحيد المتاح لهم في ذلك الوقت لمقاومة الإسلام.
وسبب ذلك أن مواقف الناس في الشعوب التي دخلت في الإسلام، لم يكن واحداً، فمنهم من استبشر بهذا الدين، وانشرح صدره له، ومنهم من أذعن للوضع القائم دون أن يتفهم ويتحمس له، ومنهم من أخذ موقفاً معادياً وأخذ يعمل ضده. وأصحاب هذا الموقف الأخير هم عادة الملأ من أبناء الملوك والأمراء، وقادة الجيوش وأصحاب الجاه، ورجال الدين الذين سلبت منهم المناصب والمصالح الدنيوية فشرقوا بغيظهم، وزاد من غيظهم زوال ملكهم على أيدي العرب المسلمين الفاتحين، واقتسامهم لأموالهم ومزارعهم ونسائهم، وعزّ عليهم كثيراً هزيمة دينهم الذي ألفوه دهراً طويلاً.
قال محمد محيي الدين عبد الحميد: "وقد دخل في الإسلام قوم خلصت قلوبهم من أدران التقليد والعصبية، وصفت نفوسهم لما يدعوهم إليه رسول الإيمان، واطمأنت خوالجهم إلى أمانة هذا الرسول الكريم وصدقِه فعضوا على ما دعاهم إليه بالنواجذ، واستمسكوا منه بالعروة الوثقى لا انفصام لها ...