أثر الخلاف في المسائل الفقهية.
يظهر أثر الخلاف جلياً في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم، ومسألة الأكل والشرب ناسيا للصائم، ومسألة المتكلم في الصلاة, فكل هذه المسائل جلها نزاع، ومحله: الاختلاف في عموم المقتضى, قال رسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فالمقتضى: رفع الإثم ورفع الحكم عند الجمهور, أما الأحناف فلا يوافقون على العموم.
ويظهر الخلاف جليا في مسألة الذي تكلم ناسيا أو مخطئا أو مكرها في الصلاة، كأن يصلي رجل فرأى حية أمامه، فقال كلمة تذهب بصلاته، كأن يقول: أدركوني.
أو حدث أن أباه فضل أخاه عليه، فوهبه شيئاً أثمن مما أعطاه، ثم ذهب ليصلي وفكره جائل فيما حدث من تفضيل أبيه لأخيه، ثم تحدث في الصلاة فقال: أبي فضل أخي عليّ، فبطلان صلاته وصحتها مما اختلف فيها العلماء، ومدار الخلاف مبني على الخلاف في عموم المقتضي، أي: هل يعم أم لا؟ وهل الرفع في الحديث رفع الإثم والحكم أم رفع الإثم فقط ويبقى الحكم؟ ولمزيد من الإيضاح نبين معنى رفع الإثم ورفع الحكم, فمعنى قولنا: رفع الإثم أي: أنه ليس بآثم؛ لأنه تكلم في الصلاة ناسياً، إذاً أنه من تكلم عامداً في الصلاة فقد أثم؛ لأنه فعل مبطلاً لها.
ومعنى قولنا: رفع الحكم أي: لا تلزمه إعادة الصلاة، والخلاف: هل يرفع الحكم أم لا يرفع؟ فهذا هو محل النزاع، وقد اتفق الجمهور مع الأحناف في رفع الإثم، واختلفوا في رفع الحكم، فقال الجمهور: يرفع الحكم، وكلامهم هو الصحيح؛ لعموم المقتضي، بمعنى: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الأصل فيه: رفع الإثم ورفع الحكم، وعضدوا هذا المذهب بقرائن أخرى، وهذا من تنوع الأدلة؛ لقوة القول، فعضدوا هذا القول بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي تكلم في الصلاة عندما وجد آخر قد عطس فقال: الحمد لله.
فقال له: يرحمك الله.
قال معاوية: فوجدتهم يحدقون في البصر، فقلت: مالكم، ويح أمي ما فعلت, كل هذا في الصلاة، فضربوا على أفخاذهم كأنهم يسكتونه فسكت، فتكلم فكادوا يقتلونه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إن في الصلاة لشغلا، إن هذه الصلاة لا يصلح فيها من كلام الناس شيء) ثم علمهم، وقال معاوية: والله ما نهرني ولا كهرني، اللهم أرحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً بعدنا.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له: أعد الصلاة، فتبين أنه رفع عنه الإثم رفعت عنه الصلاة, أما الأحناف فقالوا: نقول برفع الإثم ولا نقول بعموم المقتضي، فلا يقولون برفع الحكم، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: حديث ابن مسعود عندما دخل على النبي فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ونهاه عن الكلام في الصلاة، والأصل: أن مطلق النهي يقتضي الفساد، والدليل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، و (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني باطل، وهذا يدل على أن مطلق النهي يقتضي الفساد وهذا قول الأحناف.
والراجح والصحيح -هو قول الجمهور-: أن من تكلم ناسيا فقد رفع عنه الإثم ورفع عنه الحكم، والذي يعضد ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع معاوية فلم يقل له: أعد الصلاة, وهنا يقال: هل للأحناف أن يحتجوا بحديث المسيء صلاته؟ فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)؟
و صلى الله عليه وسلم ليس بحجة لهم؛ لأن محل النزاع: هو الكلام في الصلاة ناسياً، أما من ناحية الفرق فقد فرق الفقهاء بين فعل المأمورات وترك المحظورات، كما سنبينها إن شاء الله, والغرض المقصود هنا: أن المتكلم إن كان ناسياً أو مكرها أو مخطئا فصلاته صحيحة، ورفع عنه الإثم؛ بدلالة عموم المقتضي في حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).