اختلف العلماء في الأخذ بالمصالح المرسلة: فجمهور أهل العلم قالوا: المصلحة المرسلة ليست حجة، وإلا لقيل بها في كل مسألة مثل السجاد في الأرض والصلاة عليه، هذا من قبيل المصالح المرسلة، فأقول: لا دليل عليه، فلا يجوز على قول الجمهور! لو قلت: الميكرفون هذا من المصالح المرسلة ولا بد أن نستخدمه حتى نسمع الناس، فإنك ترد علي وتقول: الجمهور يرون عدم حجية المصالح المرسلة، إذاً: لا يصح استعماله! أيضاً الخط لا يصح استعماله.
هذه ثمرة الخلاف.
والمالكية هم أكثر الناس أخذاً بالمصالح المرسلة.
وإذا نظرت إلى المسائل الفقهية وجدت أن جل الفقهاء بل الأئمة الأربعة يأخذون بالمصالح المرسلة، لكن الشافعي يدرج المصلحة المرسلة تحت مسمى القياس، وأما الأحناف فيأخذون بالمصلحة المرسلة ويدرجوها تحت الاستحسان، فالكل يأخذ بالمصالح المرسلة.
أيضاً اختلف العلماء في مسائل تبعاً للاختلاف في حجية المصلحة المرسلة، مثل: سبعة رجال جاءوا إلى رجل فقتلوه، فهل يقتل السبعة بالرجل أم يقتل واحداً منهم، أم لا يقتل أحد وله الدية؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وأصل النزاع فيها بسبب الخلاف في اعتبار المصالح المرسلة، فجماهير أهل العلم من الشافعية والمالكية والأحناف يرون أن السبعة يقتلون بهذا الواحد.
أما المالكية فدليلهم المصالح المرسلة، وكيف رأوا أن المصلحة في أن يقتل السبعة؟
صلى الله عليه وسلم قالوا بقتلهم سداً للذريعة؛ لأننا لو قلنا إن السبعة لا يقتلون بواحد، فكل من في قلبه ضغينة على أحد يقول: لو قتلته وحدي سأقتل، لكن سآتي بثلاثة وأعطيهم المال فنقتل هذا الرجل فلا نقتل به.
فمن المصلحة العظمى للحفاظ على الأرواح والدماء أن يقتلوا به، قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] فمن أجل حياة الناس نقتلهم بالواحد.
فلو تكالب أهل مدينة بأسرهم على قتل رجل فلا بد أن نقتل هؤلاء به، كما قال عمر بن الخطاب: لو قتله أهل صنعاء لقتلتهم به.
أما أحمد وابن المنذر فيرجحون أنه لا يقتل السبعة، بل يقتل رجل منهم، أو عليهم الدية، ودليلهم في ذلك عموم قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
لكن نقول: لو اعتدوا كلهم عليه، فلا بد أن يأخذوا حكم القاتل الواحد فيقتلون بهذا القتيل.
المسألة الثانية: من المصالح المرسلة تضمين الصناع: لو أنك ذهبت بالقميص لمن يكويه لك فأحرقه، فهل يضمن هذا القميص أو لا؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين: جماهير أهل العلم قالوا: لا يضمن؛ لأن يد الأجير يد أمانة ولا يضمن إلا بالتفريط، فإن ثبت أنه غير مفرط فلا يضمن.
والإمام علي والإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنهما والأحناف والمالكية قالوا بتضمين الصناع، فعليك أن تضمنه هذا القميص وتأخذ منه بدلاً عن القميص، ودليلهم في ذلك: المصالح المرسلة.
قالوا: المصلحة في ذلك أننا نأخذ على أيديهم حتى لا يحدث منهم تهاون أو تفريط، فإنا نقول له: هذا بيدك وأنت ضامن له، وأشترط عليك هذا ضمان، فإن قلت بالضمان فلا بد أن ينتبه، لكن لو علم أنه لا يضمن فإنه قد يتهاون.
والصحيح الراجح هو قول جماهير أهل العلم، وهو أنه لا يضمن؛ لأنك عندما أعطيته هذا القميص ما أعطيته إياه إلا وأنت تثق في دينه وأمانته، فإذا أعطيته ذلك فيده يد أمانة، والأصول الشرعية والقواعد الكلية تدل على أن الذي يده يد أمانة لا يضمن إلا بالتفريط، فإن أحرق لك ثوبك فأثبت أنه قد فرط ضمنه وإلا فلا.
والحمد لله الذي أتم علينا هذا الكتاب بفضله ومنه وكرمه وحوله وقوته، وأسأل الله أن ينفع به، وأن يلهمنا وإياكم الإخلاص.