إن مسألة نجاسة الكافر خلافية، لكن حتى الذين يقولون بالمفهوم لا يقولون بها، فالكافر لا يجوز السلام عليه، لكن إذا سلمت عليه هل تغسل يدك من السلام عليه أم لا؟ اختلف العلماء على قولين: القول الأول: الكافر نجس، فإذا سلم عليك فلا بد أن تغسل يدك منه، وإذا أكل معك فلا تأكل معه ولا تستعير منه شيئاً، وهذا قول ابن حزم، وهذا القول لا بد للجمهور أن يقولوا به، فـ ابن حزم أخذ بدليل مفهوم المخالفة، لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (قابلت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت جنباً فانسللت، فاغتسلت فرجعت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر! أين كنت؟ فقال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك فاغتسلت، فقال: سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)، وفي رواية أخرى عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: (قابلت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت جنباً فانسللت فاغتسلت، فقال: إن المؤمن لا ينجس)، يعني لا تفعل ذلك فإن المؤمن لا ينجس، فالمنطوق: حكم المؤمن أنه طاهر ولا ينجس، ومفهوم المخالفة: الكافر ينجس، فتمسك بها وعض عليه بالنواجذ ابن حزم.
قال: ويعضد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، فهذه دلالة واضحة على نجاسة الكافر، فلو سلمت على رجل من أهل الكتاب فعليك أن تغسل يدك على قول ابن حزم، ولا ينتقض الوضوء كما لو مس الرجل المتوضئ النجاسة بيده فإنها لا تنقض وضوءه، فإذا مسكت النجاسة فعليك أن تغسل مكان النجاسة فقط.
وهذا أيضًا على خلاف بين العلماء، لكن هذا هو الراجح عند أهل التحقيق.
القول الثاني: قول جماهير أهل العلم أن الكافر ليس بنجس، فقام ابن حزم -بأسلحته الفتاكة- فقال: خالفتم ما قعدتم! أي: تؤصلون وتقعدون ولا تأخذون بالقواعد! فقال الجمهور: كيف ذلك؟ قال: قلتم: مفهوم المخالفة معتبر، ولما قال الأحناف: لا نعتبر بمفهوم المخالفة رددتم عليهم وشننتم، فنحن نرد عليكم ونقول لكم: قال النبي: (المؤمن لا ينجس) فمفهوم المخالفة: غير المؤمن ينجس، فلم لا تقولون بذلك؟ قالوا: يا ابن حزم! نحن نتفق معك في القاعدة ونقول: مفهوم المخالفة حجة، لكننا قلنا: إن مفهوم المخالفة لا عبرة به إذا خالف منطوقاً، وكذلك مفهوم المخالفة لا عموم له كما عليه كثير من الأصوليين، فإذا قلنا: المؤمن لا ينجس إذاً: الكافر عليه نجاسة معنوية أي: نجاسة اعتقاد؛ لأنه يعبد الأوثان والعياذ بالله، فهذه نجاسة اعتقادية معنوية لا نجاسة حسية، فنحن نخصص هذا المفهوم ولا نقول بالعموم فيه، وإن كنا نتفق معك على المفهوم لكن الذي جعلنا لا نأخذ بالمفهوم هنا هو أدلة المنطوق التي هي أقوى من المفهوم، قال: ما هي؟ قالوا: لقد أباح الله الزواج من الكتابيات، والكتابية إن كانت نجسة فالمؤمن الذي تزوج بها سيمسها بيده، فلو قلنا إنه كلما قبل أو سلم أو عانق، يجب أن يغسل فذلك يلحق به المشقة الشديدة التي لا يمكن احتمالها، فحلية النكاح من الكتابيات فيه إشارة من الشرع على أن الكافر ليس بنجس نجاسة حسية.
كذلك لقد دعي النبي صلى الله عليه وسلم من قبل يهودية، وأكل الشاة التي قدمتها وصنعتها له بيدها، فلو كانت نجسة ما أكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه.
وكذلك: لقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم بماء يملكه الكتابي الكافر، فكل هذه الأفعال من النبي صلى الله عليه وسلم تدل على عدم نجاسة الكافر، فقلنا بهذه الأدلة القوية في المنطوق الذي عارضها في الظاهر المفهوم، فالمفهوم يبين أن الكافر نجس، والمنطوق يبين أن الكافر ليس بنجس، فقلنا: لا عبرة هنا؛ لأنه خالف منطوقاً والمنطوق أقوى في الدلالة من المفهوم، إذ المنطوق قوته في التصريح والمفهوم قوته في التلميح، وإذا عارض المصرح به المستنبط فإننا نقدم المصرح به، ومع هذا فإننا لا نطرح المفهوم عموماً بل نخصص عموم المفهوم، ونقول: نجاسة الكافر نجاسة اعتقادية لأنه يعبد الوثن أو الشمس أو القمر وهذه نجاسة معنوية وليست نجاسة حسية.