الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد: فإن دراسة الأصول بمعزل عن الفقه آفة جسيمة استفحل خطرها، وزاد ضررها، وظهر عوارها خاصة بين طلبة العلم الشرعي مما أدى إلى عقم المادة الأصولية عند طلابها، وعند دراسة المنهج الأصولي بمعزل عن التطبيق على الفروع أصبحت دراسة الأصول بلا ثمرة، فانفصمت بذلك عرى الأصول عن أن تبنى عليها الفروع وهي في أصل وضعها إنما وضعت بمثابة المقدمة لبناء الفروع عليها واستنباطها منها.
قال الإمام الشاطبي في المقدمة الرابعة من موافقاته: كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية.
وأهمية دراسة الأصول تكمن في استنباط الفروع منها وبنائها عليها، وليس في مجرد دراسة منهج أصولي بمعزل عن التطبيق الفقهي.
نواصل كلامنا في شرح كتاب (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء)، وقد انتهينا من الكلام على عموم المقتضي ودلالات الألفاظ، ونتكلم الآن عن مفهوم المخالفة، تعريفه، وحكمه، ومتى لا يعتبر مفهوم مخالفة؟ أما تعريفه: فهو حكم المسكوت عنه يخالف حكم المنطوق.
لمفهوم المخالفة عدة أوجه فإما أن يخرج الكلام مخرج الغالب، فلا نعمل بالمفهوم، وذلك كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء:23].
فلا يقال بإباحة الزواج بالربائب إذا لم يكن في حجر الزوج، لأن الآية هنا لم ترد التقييد وإنما خرجت مخرج الغالب، وكون الربيبة لا تكون في حجر الزوج أمراً نادراً، فلا عبرة به، هذا هو الوجه الأول.
أما الوجه الثاني: فأن تأتي الآية في سياق الامتنان أو سياق التنفير كقوله تعالى: [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فليس مفهومه جواز أكل الربا شيئاً فشيئاً كقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14] وهذا في سياق الامتنان.
وقد يكون في المفهوم مخالفة المنطوق كحديث: (إنما الماء من الماء)، فمفهومه أنه لا يجب الغسل إلا إذا نزل المني، ولا عبرة بالتقاء الختانين، فهذا يخالف حديث: (إذا التقى الختانان وجب الغسل).