هل الحج على الفور أم على التراخي؟ فلو أن رجلاً سهل الله له الاستطاعة بالمال والزاد والراحلة، وأراد السفر للحج ثم تقاعس وقال: أذهب إلى الحج العام القادم، فما محله من العقاب والثواب؟ يرى الحنابلة أنه آثم وعاصٍ لله جل في علاه؛ لأنه لم يمتثل لأمر الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، هذه أيضاً دلالة على الأمر، والأمر يقتضي الوجوب والفورية، فإذا استطاع المكلف الحج وجب عليه في حينه أن يسافر إلى الحج، ولو كان قبله بيوم أو بأسبوع إلا أن يمنع من قبل السلطات، فقد اتقى الله ما استطاع.
هذا قول الحنابلة.
أما الجمهور من الشافعية والأحناف فقد قالوا بأنه ليس على الفور، بل لو تراخى في الحج بعدما وفر الله له الزاد والراحلة لم يأثم بذلك، لكنه في ذمته ولا بد أن يأتي بهذه الفريضة.
دليل الحنابلة: أن مقتضى الأمر الفورية.
وأما دليل الأحناف والشافعية فليس على هذا التأصيل.
والدليل من اللغة على أن الأمر يقتضي الفورية: أن السيد لو قال لعبده: ائتني بكوب من الماء، فتركه إلى الليل فضربه لم يكن ملوماً؛ لأن العبد لم يأتمر بأمره، فهذا دليل من لغة العرب على أن الأمر على الفورية؛ لأنه لو كان على التراخي لم يكن له أن يعاقبه.
فالقول بالفورية هو قول الحنابلة، أما الشافعي فله قولان، أحدهما بالفورية؛ والآخر بأن الحج ليس على الفور، لا لمقتضى الأمر -يعني: لا على التأصيل- ولكن للقرائن المحتفة التي صرفت الأمر من الفورية إلى التراخي، وهذا القول هو الراجح الصحيح.
قالوا: أولاً: أن الحج فرض في السنة السادسة، على خلاف بين العلماء هل فرض في السنة السادسة أو السنة التاسعة، والذي أميل إليه أن الحج فرض في السنة السادسة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة.
لكن الحنابلة قالوا بأنه فرض في السنة التاسعة، والوفود التي قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم هي التي أخرته من أجل مصالح المسلمين إلى السنة العاشرة.
فالشافعية قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه كانوا على يسر، وكانوا يملكون الزاد والراحلة فلم يحجوا إلا مع حج النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا تقولون في هؤلاء الذين أخروا الحج؟ هذه شبهة قوية جداً، وإذا قلنا بأن الحج فرض في السنة السادسة والنبي صلى الله عليه وسلم أخره إلى السنة العاشرة كان ذلك ليس على الفور.
والشبهة الثانية: أن الصحابة كانوا مياسير وكان معهم المال ولم يحجوا، فكانت هذه دلالة قوية جداً صارفة من الفورية في مسألة الحج إلى التراخي، لكن الأحوط وخروجاً من الخلاف نقول بالفورية، ويأثم من وفر الله له الزاد والراحلة فلم يذهب إلى الحج.
ينبثق عن هذه المسألة مسألة مهمة جداً.
إذا قلنا بالتراخي، وقلنا: ليس الوجوب على الفورية في مسألة الحج بالذات لوجود الصارف إلى التراخي، فإذا وجد المكلف الزاد والراحلة ثم مات وهو يقول بأن الأمر ليس على الفورية، فهل يجب أن يقضى عنه الحج أم لا؟ نقول: يجب الحج عنه، ومال الحج لا يدخل في الميراث -كالزكاة- ثم يحج عنه بالنيابة، فهذه المسألة هي التي انبثقت من هذه المسألة.
وقال المالكية والأحناف: لا يجب إلا إذا أوصى، للتأصيل العلمي الذي يقول: الوصية واجبة التنفيذ، فإذا وصى بذلك حج عنه، وإن لم يوص فلا يحج عنه.
قالوا: وأيضاً للتأصيل العام الشرعي أن الأصل في العبادات عدم النيابة.
فلو حج رجل عن رجل كان هذا نيابة، والأصل في العبادات أنه لا نيابة فيها، فقالوا: هذا التأصيل العام وأنتم توافقون عليه، فإنه لا يجوز النيابة في الحج إلا إذا أوصى، فتكون المسألة بواجب آخر غير النيابة وهو وجوب تنفيذ الوصية.
وأما الشافعية والحنابلة فقالوا بوجوب الحج عنه إذا مات وإلا فآثم، وسيسأل عند ربه عن هذا الحج.
وهذا هو الراجح الصحيح.
والدليل على ذلك: المرأة الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلت نفسها، وفي رواية ذكرت الصوم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فقالت: نعم، فقال: دين الله أحق أن يقضى).
وأيضاً المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج ولا يستطيع أن يستوي على الراحلة إلى آخر الحديث.
المقصود: أن هذا الحديث فيه فصل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دين الله أحق أن يقضى).
إذاً: دين الله في الحج لا بد أن يخرج من التركة قبل أن يقسم الميراث.
إذاً: الراجح الصحيح: أن من مات وعليه حَج حُج عنه وجوباً، هذا إن مات وهو مستطيع، لكن إن مات وهو غير مستطيع فهذا لا يطالب بالحج، ولا يحج عنه وجوباً، لكن هل يحج عنه استحباباً؟ هذا خلاف فقهي عريض بين العلماء ليس هذا مجال التفصيل فيه.