تبقى مسألة متعلقة بهذا الباب، ألا وهي: المرأة الحائض إذا أفطرت في رمضان بسبب الحيض، واستمر معها حيضها حتى لم يبق من شهر شوال إلا ستة أيام، وهي تريد أن تنال الحظ الأوفر والأكبر في صيام شوال وصيام رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر).
فهي تقول: لو قضيت ما علي فلن أستطيع صوم الأيام الستة، فسأقضي ما افطرت من رمضان في أي وقت، فهل نقول بقول الجمهور: بأنه لا نافلة مع الفرض حتى تأتي بالفرض، أم نقول بقول الأحناف بأنه لها أن تتنفل ما دام الواجب موسعاً؟ أقول: لن نقول بأي القولين، والصحيح الراجح: أن المرأة ليس لها إلا أن تقضي أولاً ثم تصوم الست من شوال، أو تريد أن تتنفل تنفلاً مطلقاً لها، ثم تقضي ما عليها، لمَ؟ لست أقول بأنه محجور عليها النافلة حتى تقضي؛ لأن هذا واجب موسع، لكني أحجر عليها الفضيلة، فصيام المرأة ستة أيام قبل أن تقضي هل تندرج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال) لأن قوله: (صام رمضان) يعني: كل رمضان، هذا ظاهر اللفظ، وهي الآن لم تتم الشهر، إذاً: لا تندرج تحت الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان) رمضان هنا نكرة في سياق الإثبات، وهذا يفيد الإطلاق، يعني: من صام كل رمضان من أول يوم إلى آخر يوم، ثم أتبع رمضان بست من شوال، فكأنما صام الدهر كله، فنحن نقول: هي لم تصم رمضان، فعليها أولاً: أن تقضي الأيام التي أفطرتها من رمضان بسبب الحيض، فإذا قضت هذه الأيام نقول لها: أنت الآن قد صمت رمضان فلك أن تصومي الست من شوال.
قالت: إذاً لو قضيت ما علي فلن يتسع لي الوقت أن أصوم الست من شوال، نقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولك ما نويت، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكم من مريد للخير لم يبلغه، وهذه قواعد شرعية أصولية عامة لا بد أن نعمل بها.
ولو قلنا بأنها تصوم الست ثم تقضي ما عليها لم تكن قد دخلت تحت عموم الحديث: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال).
فاعترض علينا المعترضون، وقالوا: كيف تقولون ذلك وهي قد صامت ما فرض عليها، لكن ليس بفرض عليها في أيام الحيض؟ قلنا: ليس بفرض عليها حين الحيض، لكن هل القضاء فرض عليها أو ليس بفرض عليها؟ سيقولون: فرض عليها.
قلنا: إذاً لم تتم الشهر، فتتم الشهر بالقضاء.
قالوا: ماذا تفعلون في حديث عائشة، ألا تظنون خيراً في عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ هل عائشة رضي الله عنها وأرضاها تترك صيام الست من شوال، وتترك هذا الخير العميم العظيم وهو أن تصوم الست من شوال مع رمضان فتفوز بصيام الدهر كله، فهي لم تقض القضاء إلا في شعبان، ويبعد كل البعد أن تترك أيام الست من شوال، ولدينا أيضاً قاعدة: كلما ضاق الأمر اتسع، فكيف نجيب عن هذه الأسئلة؟ أقول: الراجح والصحيح أنه ليس لها أن تصوم الأيام الستة حتى تقضي، وهذا ليس تضييقاً عليها، وإذا دارت مع الشرع فليس هذا من التضييق بشيء، بل الدوران مع الشرع كله خير.
أما عن حديث عائشة، فهي لم تصم الست، وأين الدليل على أنها صامت؟ أنا عندي الدليل أنها لم تصم، مع أني لست ملزماً أن آتي بالدليل، فالمخالف هو الذي يأتي بالدليل؛ لأن الأصل عدم القيام بهذه الطاعة، فإذا قامت بالطاعة فائتوني بالدليل، ولا دليل لديكم إلا حسن الظن، ونحن نحسن الظن، وفوق هذا الإحسان أقول: إنها لم تصم لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها؛ لأنها بينت العلة -كما في البخاري - أنها ما كانت تقضي رمضان إلا في شعبان لمكان رسول الله منها، إذا كان يريدها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تجعل لنفسها وقتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا أحسن بها الظن ألا تقدم النفل على الفرض وهي الفقيهة رضي الله عنها وأرضاها؛ لأن استجابتها لرسول الله إذا أراد وطأها واجب والصيام نفل.
لذلك أنا أقول: المرأة لو صامت يوم الإثنين ودخل زوجها فاشتهاها فلا بد أن تفطر وجوباً، ولولم تفطر أثمت بذلك؛ لأنها تقدم النفل على الفرض.
فقدمت عائشة الفقيهة فرضية الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النفل وهو صوم ستة أيام، وهي تعلم أنها لو نوت خيراً ما ضاع هذا الخير (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذه دلالة واضحة جداً على أن عائشة لم تصم الأيام الستة.
وأما القول بأن الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق، فنقول: أين محل هذه القاعدة مما نقول؟ نحن نقول لها: صومي النافلة كيفما شئت، لكن لن تحوزي فضيلة الأيام الستة بعد صيام رمضان وتكوني قد صمت الدهر كله إلا بعد أن تطبقي الحديث؛ لأنها مقدمة ونتيجة، المقدمة (من صام رمضان)، أي: كل رمضان، (ثم أتبعه بست من شوال) النتيجة: (فكأنما صام الدهر كله) فالحائض إنما جاءت ببعض رمضان وبست من شوال، فلا تأخذ النتيجة؛ فإذا صامت رمضان، وقضت ما أفطرته في شعبان، وكانت قد صامت ستة أيام من شوال، نقول: هل صامت رمضان حقيقة وأتبعته بالست، أم قدمت الست ثم أتبعت الصيام؟ نؤصل تأصيلاً آخر لكي نوضح أكثر.
النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) الصحيح الراجح المتوافق مع ظاهر كلام النبي هو وجوب التسمية، فلو صلى بوضوء لم يذكر اسم الله عليه، فصلاته باطلة، لمَ؟ اجعلوها معادلة، مقدمة ونتيجة، المقدمة: وضوء بتسمية مع صلاة فالصلاة صحيحة، وضوء بدون تسمية فالصلاة غير صحيحة، كذلك هنا: صيام رمضان كاملاً مع ست من شوال، فالنتيجة: صام الدهر كله، وإذا لم يصم كل رمضان لم يدخل تحت الحديث.
إذاً: محور الكلام كله على لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.
امرأة صامت نصف رمضان، وصامت الست من شوال، فلا يقال إنها صامت رمضان وأتبعته ستاً من شوال؟ إلا أن يوجد دليل يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد المسارعة ولا يقصد هذه المقدمة، ولا يوجد دليل إلا حسن الظن بـ عائشة، ونحن نحسن الظن، لكنها إنما تركت الصيام من أجل مكان النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل تترك صيام الدهر؟! نعم؛ لأن الله جل وعلا سيعطيها فوق ذلك أضعافاً مضاعفة؛ لأنها قدمت الفرض على النفل، وقدمت رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر في ذاتية نفسها.
بل القاعدة عند العلماء: لو تعارضت العبادات المتعدية مع العبادات الذاتية فالمتعدي يقدم على الذاتي، كصلاة ركعتين والتصدق بدرهم، فالتصدق بدرهم أفضل من صلاة الركعتين، لأن الركعتين تنفع صاحبها فقط، أما الصدقة فتنفع المتصدق والمتصدق عليه.
وقد قالت عائشة للرواي: أما أنا وأنت فمن الذين ظلموا أنفسهم؟ هي تصرح بنفسها، كأنها لا تفعل إلا الفرائض فقط.
ابن مسعود كان يقول: إن الصيام يضعفني فلا أصوم حتى أستطيع القيام، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في العصر يطوف على نسائه ويقبل كل امرأة، ولو افترضنا أنه قبل امرأة فاشتهاها فهل تمتنع؟ لا.
ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقضي أولاً ثم تصوم الست، ولا يوجد مخالف لهذا، ولا يوجد دليل أنها لم تصم وأخرت وصامت بعد ذلك.
هناك قاعدة علمية تقول: إذا تعلق الحكم على شرطيه لا يتواجد إلا بوجودهما، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهنا الشرط الأول: أن تصوم كل رمضان، والشرط الثاني: أن تصوم الست، فاختل الشرط وهو صيام رمضان كله.
إذاً: الصحيح الراجح في هذه المسألة: أنها لا تصوم.