طبع في حياته تحت عنوان "عيون البصائر". وها أنا اليوم- بعد ابتعادي عن المسؤوليات- أقدم للقراء طبعة جديدة من آثار الوالد بعد سنتين من البحث والتنقيب عما تركه من كتابات مخطوطة أو مطبوعة كانت متناثرة هنا وهناك.
ولئن كانت هذه الآثار المطبوعة ضئيلة في حجمها بالنسبة إلى حياة الشيخ الحافلة، فإن كثيرا ضاع، وكثيرا مما ألقاه من دروس وخطب ومحاضرات لم يسجل لأنه كان يلقيه ارتجالا، ولم تتسن كتابة إلا أقل القليل منه، وكانت له مؤلفات وكتابات مخطوطة حول العديد من المواضيع في الدين واللغة والأدب والاجتماع ضاعت إبان حرب التحرير، إما عند بعض تلامذته أو في بيته بالجزائر العاصمة حين اقتحمه الجيش الفرنسي سنة 1957 - وهو بالمشرق العربي- وعاث في مكتبته تخريبا ونهبا، ففقدت مخطوطاته ومعظم كتبه.
وبالرغم مما للوالد من أبحاث ومقالات فإنه يعد من ذلك الرعيل من المفكرين الذين شغلتهم الاهتمامات القومية ومسؤولياتهم في الحركة الإصلاحية عن الإنتاج المكتوب، وهو في ذلك كالشيخ سالم بوحاجب بتونس، والشيخ محمد بن العربي العلوي بالمغرب الأقصى، وقبلهما حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، فهؤلاء قضوا حياتهم في تكوين الرجال لا في تأليف الكتب، ولقد كان البشير الإبراهيمي يقدم الأهم على المهم إذ نذر حياته للإصلاح الديني والاجتماعي وتكوين الرجال القادرين على حماية إسلام الجزائر وعروبتها. وقد أكد ذلك في آخر حياته بقوله: "لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته، فأصبح مسلما عربيا، وصححت له موازين إدراكه، فأصبح إنسانا أبيا، وحسبي هذا مقربا من رضى الرب ورضى الشعب " (3).
وكانت صورة الأمير عبد القادر الجزائري ماثلة أمامه دائما، لأن عبد القادر كالإبراهيمي كان لا يفصل بين العلم والعمل، ولا يفرق بين النضال والتفكير.
...
إن الحديث عن الإبراهيمي هو حديث عن الجزائر: أصالة وحضارة وصمودا ونهضة وتحررا، فقد جسد الجزائر في شخصيته: نشأة وتكوينا وإشعاعا وقولا وكتابة وسلوكا.
إن آثاره التي توزعت حياته بمختلف مراحلها حافلة بما أثمره جهاده الطويل من جلائل الأعمال، فقد جسدت بصدق وأمانة حياة الجزائر خلال حقبة كاملة من تاريخها الحديث.