لقد وصف هؤلاء القَعدَة من العلماء بأنهم "يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة، والأنظار والقصيرة" (23)، وشنع عليهم تقصيرهم في واجب النزول إلى الميدان، وأخذ عليهم التزامهم بيوتهم أو مساجدهم، منتظرين إقبال الناس عليهم، متكئين على مقولة "العلم يُؤْتَى ولا يأتي"، وهي كلمة- كما يقول- لا تصدق في كل زمان، "وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا" (24). وحاول أحدهم أن يبرر تقصيره بقوله: "إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد"، فرد عليه الإمام: "إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك" (23).
ومن أَشدِّ المآخذ التي أخذها الإمام الإبراهيمي على هذا الصنف من العلماء قبولهم الإعفاء "من الجندية التي هي حلية الرجال، وإن في قبول العلماء لهذا الإعفاء، وسعيهم له لشهادة يسجلونها على أنفسهم بفقد الرجولة ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلاً عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبب له، أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد، والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعُدُّون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين" (26).
إن فكرة الجامعة الإسلامية التي آمن الإمام الإبراهيمي بها، ودعا إليها، وسعى في سبيلها، وحث على إحيائها قد تجسدت- فيما بعد- في "منظمة المؤتمر الإسلامي". وإذا كان أثر هذه المنظمة ضعيفًا، وعملها قليلاً، فما ذلك إلا لأن كثيرًا من المسؤولين في العالم الإسلامي يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويؤمنون بها وجه النهار ويكفرون بها آخره، ويقولون للشعوب الإسلامية أشياء، وإذا خلوا إلى أسيادهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. أما الإمام الإبراهيمي فما عليه- كعالم- إلا البلاغ، وقد بلغَّ، وما عليه إلا التذكير وقد ذَكَّر، وما عليه إلا البيان وقد بيَّن، لم يَتَلَجْلَجْ له في ذلك لسان.