يوجد فيهم عظيم، ولم تسقه إليهم المقادير، ساقته الأساطير، فتصوّر لهم أخيلتهم عظيمًا، ويُفيضون عليه من التمجيد ما يصوّره مثلًا أعلى، ويصيره مرجعًا أسمى، ثم يعمدون إلى معاني العظمة الكاملة المتفرّقة فيهم، فيخلعونها عليه إعارة، ليأخذوها عنه استعارة، بالقدوة والاتصاف في الأعمال، أو بالتمثل والاستشهاد في الأقوال، ومثل ما فعلوا في العظماء فعلوا في الحكماء مرسلي الحكم، في الكلم، واعتبر ذلك بلقمان في الأوّلين، وجحا في الآخرين، فإننا نجد هذا الاسم دائرًا على الألسنة عند طوائف كثيرة من الأمم، يردّون الحكمَ والأمثالَ إليه؛ ومثله- على نسبة ما- البهلول، والفياش، والمجذوب، عند بعض العرب، و"ماريوس"، وصاحبه عند الفرنسيين وغيرهم عند غيرهم، وكل ذلك يدلّ على أن أفراد النوع مولعون بالعظمة والشهرة، مفتونون بالحكمة والمثل، حتى إنّ أحدهم يرسل المثل، أو يصوغ الحكمة ثم ينسبها إلى غيره ممن ملأ أذهان الناس، وشغل حيّزًا واسعًا من شعورهم، ليكون ذلك أسيَر للمثل، وأبقى للحكمة، وإن هذا لنوع من "القرابين" الروحية للمعاني المتألهة.
والعظمة الحقيقية كالشعر المطبوع، تستند على الطبع الموهوب، والاستعداد الفطري ثم تأتي الأدوات في الدرجة الثانية، مساوقة للطبع، متناسقة مع الاستعداد، حتى تتمكّن وتثبت، وتقابلها عظمة صناعية زائفة، تحشد لها الأسباب، وتجلب المعاني، وتستعار لها الأدوات، أو تشترى من السوق، فتأتي متداعية متهافتة، لا تستقرّ ولا تثبت، ثم تموت قبل صاحبها أو تموت بموته.
وكما أن استحكام القوافي في الشعر لا يأتي من معرفة أحكام القوافي في العروض، لا تأتي العظمة بالتكفف والصنعة، ولا بالاستعارة والتقليد.
...
وعبد الحميد بن باديس عظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى، فهو عظيم في علمه، عظيم في أعماله، عظيم في بيانه وقوّة حجّته، عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل، عظيم في مواقفه من المألوف الذي صيره السكوت دينًا، ومن المخوف الذي صيره الخضوع إلهًا، عظيم في بنائه وهدمه، عظيم في حربه وفي سلمه، عظيم في اعتزازه بإخوانه، ووفائه لهم، وعرفانه لأقدارهم. وإذا كان من خوارق العادات في العظماء أنهم يبنون من الضعف قوّة، ويخرجون من العدم وجودًا، وينشئون من الموت حياة، فكل ذلك فعل عبد الحميد ابن باديس من الأمّة الجزائرية.
***